زار قداسة البابا فرنسيس عند السّاعة الرّابعة من عصر الأحد بالتوقيت المحلّي مسجد "حيدر ألييف" في باكو حيث التقى شيخ المسلمين في القوقاز وممثلين عن الديانات الأخرى في البلاد، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة استهلّها بالقول:
إنّها لعلامة عظيمة أن نلتقي بصداقة أخويّة في مكان الصّلاة هذا، علامة تُظهر ذاك التناغم الذي يمكن للديانات أن تبنيه انطلاقـًا من العلاقات الفرديّة والإرادة الصّالحة للمسؤولين. من هذا الوفاق تستفيد أذربيجان التي تتميّز بالاستقبال والضيافة، عطيّتين تمكَّنتُ من اختبارهما في هذا اليوم المشهود.
يأتي لقاؤنا معًا في سلسلة اللقاءات العديدة التي تتم في باكو من أجل تعزيز الحوار وتعدد الثقافات. لأنه وعندما تُفتح الأبواب على الاستقبال والإدماج تُفتح أيضًا أبواب القلوب وأبواب الرّجاء للجميع. أنا كلّي ثقة بأن هذا البلد "الباب بين الشّرق والغرب" سيعزز على الدوام دعوته للانفتاح واللقاء شرطين ضروريين لبناء جسور سلام ثابتة ومستقبل يليق بالإنسان.
إنّ الأخوّة والمقاسمة اللتين نرغب بتنميتهما لن يقدّرهما من يريد أن يشدّد على الانقسامات ويُشعل التوترات ويكسب أرباحًا من التباينات والتناقضات؛ ولكنّهما تُطلبان وتُنتظران من الذي يرغب بالخير العام ومقبولتان من قِبَل الله الشفوق والرّحوم الذي يريد أن يكون أبناء وبنات العائلة البشريّة الواحدة متّحدين فيما بينهم وفي حوار دائم. إنّ الانفتاح على الآخر لا يفقرنا بل يُغنينا لأنّه يساعدنا لنكون أكثر إنسانيّة ونضع نصب عينينا خير البشريّة لا مصالحنا الخاصّة.
تلعب الديانات دورًا مهمًّا: فهي ترافق البشر في البحث عن معنى الحياة وتساعدهم كي يفهموا أنّ قدرات الكائن البشريّ المحدودة وخيرات هذا العالم لا ينبغي أن تصبح مفاهيم مُطلقة. وبالتالي، فقد دُعيت الديانات لتُفهِمنا أن محور الإنسان هو خارجه، وبأننا مندفعون نحو الآخر اللامتناهي ونحو الآخر قريبنا، وهناك بالذات دُعيت لتوجّه حياتها نحو الحبّ الأسمى والملموس.
إن الديانة إذًا هي حاجة للإنسان كي يُحقق هدفه وبوصلة لتوجّهه نحو الخير وتُبعده عن الشرّ الرابِض بِباب قلبه. بهذا المعنى تلعب الديانات دورًا تربويًّا إذ تساعد الإنسان على استخراج الأفضل من ذاته. ونحن كقادة، لدينا مسؤوليّة كبيرة لنقدّم أجوبة حقيقيّة لبحث الإنسان الذي يضيع اليوم غالبًا في تناقضات زمننا.
ولذلك فالديانات، وإذ تساعد في تمييز الخير وعيشه من خلال الأعمال والصلاة وتعب العمل الداخليّ، هي مدعوّة لتبني ثقافة اللقاء والسّلام التي تقوم على الصبر والتفهُّم وخطوات متواضعة وملموسة. وبهذا الشكل يمكنها عندها أن تخدم المجتمع. أضف إلى ذلك أنّه لا ينبغي أبدًا أن يتمّ سوء استخدام الديانات ولا أن تساهم أبدًا في النزاعات والمواجهات.
ولكن ما يكون مثمرًا فهو الرّابط الصّادق بين المجتمع والديانات، عهد مُحترم يجب أن يُبنى ويُحافظَ عليه وفي هذا السياق أرغب بأن أشبّهه بصورة عزيزة على هذا البلد، أي بالواجهات الزجاجيّة "Shebeke" الموجودة منذ عصور في هذه الأرض والمصنوعة فقط من الخشب والزجاج الملوّن والتي في صناعتها الحرفيّة لا يتمّ استعمال الغِراء أو المسامير، وإنما تتداخل قطع الخشب والزجاج في بعضها البعض من خلال عمل طويل ودقيق، فيمسك هكذا الخشب الزجاج فيما يسمح الزجاج بعبور النور. وبالطريقة عينها يكون هذا واجب كلّ مجتمع مدنيّ في عضد الديانة، التي تسمح بدخول النور الضروريّ للعيش، وبالتالي من الأهميّة بمكان أن تُضمَن لها حريّة حقيقيّة وفعّالة.
مرّة أخرى ومن هذا المكان المهمّ ترتفع صرخة من القلب: لا للعنف باسم الله بعد اليوم! ليكن اسمه المقدّس معبودًا وغير مدنس وسلعة بيد الأحقاد والصدامات البشريّة. لنكرّم الرّحمة الإلهيّة تجاهنا بالصلاة المثابرة والحوار الملموس، شرط أساسيّ من أجل السّلام في العالم واجب المسيحيِّين والجماعات الدينيّة الأخرى.
إن الصّلاة والحوار يرتبطان بشكلٍ وثيق فيما بينهما: يحرّكان انفتاح القلب ويدفعان نحو خير الآخر وبالتالي يغنيان ويقوّيان بعضهما البعض بشكل متبادل. إن الحوار مع الآخرين والصّلاة من أجل الجميع هما الوسيلتان التي تساعداننا لكي نحوّل الرّماح إلى مناجل (أشعيا 2، 4) ونضع الحبّ حيث البغض والمغفرة حيث الإساءة ولكي لا نتعب من طلب السّلام والسّير على دروبه.
سلام حقيقيّ يقوم على الاحترام المتبادل واللقاء والمقاسمة، على الرّغبة بتخطّي الأحكام المسبقة وأخطاء الماضي، سلام يدوم تحرِّكه الشجاعة لتخطي الحواجز واستئصال الفقر والظلم وإدانة وإيقاف انتشار الأسلحة والأرباح غير العادلة التي تقوم على حساب الآخرين وحياتهم.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول في ليل النزاعات الذي نعيشه، لتكن الديانات فجر سلام وبذار ولادة جديدة وسط الموت، وأصداء حوار تتردّد بلا كلل، وسبل لقاء ومصالحة لنصلِّ أيضًا إلى حيث يبدو أن محاولات الوساطات الرسميّة لا تؤدّي إلى نتيجة؛ وبالتالي، ولاسيّما في منطقة القوقاز العزيزة هذه والتي رغبة كثيرًا بزيارتها والتي جئت إليها كحاج سلام، لتكن الديانات قنوات فاعلة من أجل تخطي مأساة الماضي وتوترات اليوم.
إذاعة الفاتيكان.