دعوة يسوع لبطرس وتسليمه سلطان قيادة الكنيسة، جرى حالًا بعد عمليّة الصَّيد العجيب الذي ذكره إنجيل الأحد الماضي (يو21: 1-14)، بحضور ستّة آخرين من التلاميذ الأول. هي المرّة الثانية يسلّم فيها يسوع القيادة لبطرس.
كانت الأولى، في قيصريّة فيليبس عندما أعلن سمعان - بطرس إيمانه بيسوع أنّه "المسيح ابن الله الحيّ"، بحضور بقيّة التلاميذ. فحوّل يسوع اسمه من سمعان إلى "بطرس" أي الصّخرة التي يبني عليها كنيسته. وسلّمه سلطان الحلّ والرّبط في الأرض وفي السّماء ( متى 16: 13-19). كان أساس تسليم القيادة إيمان بطرس بالمسيح، المميّز والمستنير. وفي هذه المرّة، سلّمه القيادة عندما أعلن ثلاثًا حبّه الشّديد ليسوع.
وهكذا ظهر شرط القيادة في الكنيسة مزدوجًا: الإيمان الثابت بالمسيح، والحبّ الشّديد له. رأس القيادة في الكنيسة، هو خليفة بطرس، قداسة البابا بوصفه أسقف روما، يشاركه فيها البطاركة في كنائسهم الخاصّة، والأساقفة في أبرشيّاتهم، بروح الوحدة والشّركة الكنسيّة.
سأل يسوع بطرس ثلاث مرّات: "إذا كان يحبّه أكثر من الآخرين"، وأجابه بطرس ثلاثًا بكثير من التأثّر والحزن، لعلّ المسيح يشكّك في حبّه، فقال: "يا ربّ، أنت تعلم كلّ شيء، وأنت تعرف أنّي أحبّك" (يو 21: 17).
لكن بطرس أدرك في أعماق نفسه أنّ يسوع يشير بسؤاله المثلّث إلى "نكرانه له ثلاث مرّات" عندما أُسلم الربّ (لوقا 23: 54-62)، في نكرانه له للمرّة الثالثة، نظر إليه يسوع لا نظرة عتاب ودينونة، بل نظرة رحمة وغفران، فتجاوب معها بطرس بالنّدامة والتّوبة. ولذا لمّا نظر إليه الربّ، "خرج بطرس وبكى بكاءً مرًّا" (لو23: 61-62)، وهو بكاء ندامة عميقة وأسف شديد.
لقد تجلّت رحمة يسوع هذه لبطرس في السؤال المثلّث عن حبّه الشّديد له، وظهرت توبة بطرس في هذا الحبّ الذي أكّده ثلاثًا. وبفضل رحمته العظمى اختاره يسوع راعيًا لخرافه، لجميع النفوس التي اقتناها بدمه. إنّ ميزة كلّ راعٍ في الكنيسة أن يكون رجل إيمان ثابت بالمسيح، وحبٍّ شديد له، وتوبة صادقة على خطاياه. والمسيح يرحمه ويختاره ويدعوه.
في رسالته ليوم الصّلاة من أجل الدّعوات، عاد قداسة البابا فرنسيس وذكّر، بما سبق وكتبه في براءة يوبيل سنة الرّحمة (فقرة 8)، بالرّبط بين الرَّحمة والإختيار. وقد ظهر في دعوة يسوع لمتى إذ "نظر إليه بحبّ رحوم واختاره" فاتّخذ البابا فرنسيس هذه العبارة شعاره في خدمته الحبريّة بالكلمتَين اللاتينيَّتَين: "Miserando atque eligendo"؛ وهما كلمتان للقدّيس Bède le Vénérable.
وأضاف قداسته: "المسيح الربّ يغفر خطايانا، ويفتح قلوبنا للحياة الجديدة التي تتحقـَّق في الدَّعوة لاتّباعه ولرسالته. كلّ دعوة في الكنيسة إنّما تنبع من نظرة يسوع المملوءة رحمة. وهكذا التوبة والدّعوة وجهان لأيقونة واحدة، وتتلازمان دونما انقطاع في حياتنا كتلاميذ مرسلين".
يسوع اختار بطرس من بين مجموعة الاثنَي عشر، ليكون الرّاعي الأعلى للكنيسة، وهؤلاء اختارهم من بين مجموعة المؤمنين والمؤمنات الذين تبعوه (مرقس 3: 13). ما يعني، كما يقول البابا فرنسيس في رسالته ليوم الدّعوات، أنّ "الدّعوة المسيحيّة" وكذلك "الدّعوات الخاصّة" تولد وسط الجماعة المؤمنة، المعروفة بشعب الله، وأنّها هبات من الرّحمة الإلهيّة. الكنيسة هي بيت الرَّحمة، وتشكّل مشتلًا حيث تنبت الدّعوة وتكبر وتُعطي ثمرًا.
كتب الطوباوي البابا بولس السّادس في الإرشاد الرسوليّ "إعلان الإنجيل": "من الانتماء إلى الجماعة المسيحيّة نتقبّل شهادة الإيمان والإعلان الصّريح لرحمة الله... دعوة الله تصل إلينا بواسطة الجماعة. الله يدعونا لنكون جزءًا من الكنيسة، وبعد فترة من النضوج، يهب كلّ شخص دعوته الخاصّة. أمّا مسار الدّعوة فيتمّ مع الإخوة والأخوات الذين يُعطينا إيّاهم الله. ما يجعل الدّعوة مُشتركة (con-vocation). إنّ الديناميّة الكنسيّة للدّعوة دواء يقي من اللّامبالاة والفردانيّة. ذلك أنّها تخلق الشّركة حيث المحبّة تغلب اللّامبالاة، لكونها تقتضي الخروج من الذات من أجل وضع وجودنا في خدمة تصميم الله، وتبنّي الوضع التاريخيّ الذي يعيشه شعب الله.
5. بيّن يسوع لبطرس نوعيّة الميتة التي سيمجّد بها الله (راجع يو 21: 19). ميتته ستكون صلبًا، مثل معلّمه، على تلّة الفاتيكان، وهي إحدى تلال روما السَّبع. لكن بطرس طلب أن يُصلب رأسًا على عقب، بحيث يوضع رأسه مكان موطئ قدمَي يسوع، لعدم استحقاقه لأن يُصلب مثله، هو الذي أنكره ثلاث مرّات.
مجّد يسوع الآب بتتميم تصميمه الخلاصيّ، مرتضيًا الموت على الصَّليب. وبطرس كمّل هذا التمجيد بموته مصلوبًا. وهذا كان قد فهمه في ظهور يسوع له المعروف ب Quo vadis .
وختم يسوع بدعوة "إتبعني" (يو21: 19) التي ظلّت تتكرّر لبطرس في كلّ محطّات حياته وصولًا إلى الاستشهاد مصلوبًا على تلّة الفاتيكان. وهي إيّاها توجّه إلى كلّ واحد وواحدة منّا كلّ يوم في جميع محطات الحياة وظروفها.
نحن بالمعموديّة والميرون أصبحنا أعضاء في الكنيسة، التي أسّسها المسيح، وأحبّها وبذل ذاته من أجلها، وملأها بروحه القدّوس من أجل تقديس أعضائها. الانتماء إلى الكنيسة تلبية للدّعوة العامّة إلى القداسة، الموجَّهة من الله لجميع أبنائها وبناتها، كما يقول بولس الرّسول: "إرادة الآب هي أن تتقدّسوا" (1تسا 4: 3). والقداسة سعي على طريق المحبّة لله وللناس، كلٌّ في حالته ووضعه وعمره. وتظهر في ثمار النعمة التي يُنتجها الرّوح القدس فينا (الدستور العقائدي في الكنيسة، 39).
هذه هي الدّعوة المسيحيّة العامّة التي تولد في الكنيسة، وفي إطارها توجد الدّعوات الخاصّة: الزّواج وإنشاء عائلة، الكهنوت، الحياة المكرّسة. كلّها سعي إلى المحبّة الكاملة.
عمر الشباب هو زمن الإلتزام في حياة الكنيسة والجماعة المسيحيّة، وبنتيجة هذا الإلتزام هو زمن إكتشاف الدّعوة الخاصّة بكلّ واحد وواحدة. العيش خارج الكنيسة والجماعة المسيحيّة ضياع لمعنى الحياة، وفقر روحيّ وإنسانيّ وأخلاقيّ؛ أنانيّة ولامبالاة ويأس وانحرافات.
العيش في الكنيسة ومع الجماعة المسيحيّة يجعل من عمر الشّباب زمن القرار والتمييز وتوسيع الآفاق، لكونهم يجدون في شخص المسيح البطل الحقيقيّ، المتواضع والحكيم، نبيّ الحقيقة والمحبّة، رفيق الشباب وصديقهم (راجع الرّسالة إلى الشباب الموجّهة من آباء المجمع الفاتيكاني الثاني في ختام أعماله، 8 كانون الأوّل 1965).
في رسالته ليوم الصّلاة من أجل الدّعوات، يؤكِّد البابا فرنسيس على ثلاثة:
أ – الدّعوة تولد في الكنيسة، بحيث أنّها ليست لمنطقة معيّنه أو لمجموعة أو لحركة، بل هي من أجل الكنيسة ومن أجل العالم. العلامة الواضحة والأصيلة لكلّ موهبة هي ميزتها الكنسيّة، وقدرتها على الانخراط بانسجام في حياة شعب الله لخير الجميع (فرح الإنجيل، 130).
ب – الدّعوة تكبر في الكنيسة بالتّثقيف المتواصل والنشاطات المتنوّعة، الروحيّة والراعويّة، الإجتماعيّة والإنسانيّة، الفنّيّة والإنمائيّة.
ج – الدّعوة تُسنِدُها الكنيسة كأمّ ومعلّمة تصلّي وتوجّه، فيما يلتزم المدعوّ بالجهوزيّة للخدمة، والثبات فيها، وتثقيف الذات.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، بنعمة انتمائنا إلى الكنيسة بالمعموديّة والميرون، دعوتَنا وأشركتنا في قداستها، وأدرجتَنا في الدّعوة العامّة إلى القداسة فيها. إنّك تدعو كلّ واحد وواحدة منّا، بواسطة الجماعة المسيحيّة، إلى دعوة خاصّة سواء في الزواج أم في الكهنوت أم في الحياة المكرّسة، نتبعك فيها على طريق المحبّة الكاملة لله وللكنيسة. ثبِّتنا في كلّ دعوة لبّيناها، وجمّلنا بفضيلة الجهوزيّة الدّائمة للخدمة في كلّ حال ومكان وظرف. إجعل، بشفاعة أمّنا مريم العذراء كلّ جماعة مسيحيّة، وقد أخصبها روحك القدّوس، ينبوعًا للدّعوات الأصيلة لخدمة شعب الله. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.