ألقى واعظ القصر الرسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمّله الرّابع لزمن المجيء تحت عنوان "وتجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء" في كابلة أمّ الفادي في القصر الرّسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّ تأمُّله بالقول:
"وفيما كان الصّمت مخيّمًا..." بهذه الكلمات تسعى الليتورجيّة كي تخلق مُجدّدًا في كلِّ سنة جوَّ الميلاد. في لحظة ولادة يسوع لم يكن العالم أقلَّ اضطرابًا من اليوم حتى وإن كان كلُّ شيء يتمُّ في حلقة صغيرة ومحدودة، لكن وحدهما يوسف ومريم كانا على معرفة بالحدث الأهم في كلّ الأزمنة.
وهذا الوضع يتجدّد روحيًّا في كلّ عيد ميلاد، إذ تختلط علينا وتبلغنا أخبار أعمال العنف والحروب والجموع المجبرة على ترك بيوتها والتي على مثال مريم ويوسف لا تجد لها مكانًا في المنامة، ووحده من يمكنه أن يُسكت كلّ شيء من حوله وفي داخله، بنعمة الرّوح القدس، سيتيقـَّنُ لما نتذكّره في هذا اليوم ويمكنه أن يقول إنّه احتفل بعيد الميلاد!
في خطِّ موضوع تأمّلات زمن المجيء هذه، نُعدُّ أنفسنا لنوال هذه النعمة من خلال التأمُّل حول حضور وعمل الرّوح القدس في التجسّد. نقول في قانون الإيمان: "الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السّماء وتجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء وصار إنسانًا". يميّز القدِّيس أوغسطينس بين أسلوبين للاحتفال بحدث من تاريخ الخلاص: أسلوب السرّ أو أسلوب الذكرى البسيط، والميلاد ليس احتفالاً بحسب أسلوب الذكرى وإنّما بحسب أسلوب السرّ وينبغي علينا أن نفهمه بمعناه. يسلّط القدّيس لاوون الكبير الضوء على المعنى السريّ لـ"سرِّ ميلاد المسيح" ويقول إنّ "أبناء الكنيسة قد ولدوا في المسيح في ولادته تمامًا كما صُلبوا معه في آلامه وقاموا معه في القيامة".
في أساس كلّ شيء نجد العنصر البيبلي الذي تحقق في مريم: العذراء تصبح أمَّ يسوع بفعل الرّوح القدس. هذا السرّ التاريخي، تمامًا كجميع وقائع الخلاص، يمتدُّ على مستوى أسراريٍّ في الكنيسة وعلى مستوى أخلاقي في نفس كلِّ مؤمن؛ ومريم العذراء والأمّ التي تلد المسيح بفعل الرّوح القدس تظهر النموذج الكامل للكنيسة ونفس المؤمن.
هذه النظرة عينها التي تميّز بها آباء الكنيسة قد استعادها المجمع الفاتيكانيّ الثاني في فصول الدستور العقائديّ نور الأمم المُخصّصة لمريم. هنا في الواقع وفي ثلاثة مقاطع منفصلة تتمّ الإشارة إلى العذراء الأمّ مريم كنموذج ومثال للكنيسة (عدد 63) والتي دُعيت هي أيضًا لتكون في الإيمان عذراء وأمًّا (عدد 64) ولنفس المؤمن الذي وإذ يتشبّه بفضائل مريم يلد يسوع ويُنمّيه في قلبه وفي قلوب الإخوة (عدد 65).
نتابع الآن في التأمل حول دور كلٍّ من الرّوح القدس ومريم العذراء لنستخرج بعض المبادئ لأنفسنا في ضوء الميلاد. يكتب القدّيس أمبروسيوس: "إنّ حمل العذراء هو عمل الرّوح القدس... لا يمكننا إذًا أن نشكَّ بأن يكون خالقـًا ذاك الرّوح الذي نعرف أنّه صانع تجسّد الرَّبّ... إن كانت العذراء قد حبِلَت بفضل عمل وقدرة الرّوح القدس فمن يمكنه أن يُنكِر أنَّ الرّوح هو الخالق؟" يفسّر القدّيس أمبروسيوس بشكلٍ كامل في هذا النص الدّور الذي ينسبه الإنجيل للرّوح القدس في التجسّد إذ يدعوه "الرّوح القدس وقدرة العليّ". إنّه الرّوح الخالق الذي يعمل لكي يُعطي الحياة للكائنات ويخلق حياة جديدة وأسمى، إنّه الرّوح "الرَّبُّ المُحيي" كما نعلن في قانون الإيمان.
إنّ الرّوح الذي يحلُّ على مريم هو إذًا الرّوح الخالق الذي يكوّن بشكلٍ عجائبيّ جسد المسيح من العذراء، ولكنّه أكثر من هذا أيضًا، فبالإضافة إلى أنّه الرّوح الخالق لكنّه يشكِّل بالنسبة لمريم أيضًا الماء الحيّ والنّار والمحبّة والمسحة الروحيّة. يتحدّث القدّيس بولس عن "رِسالَة مِنَ المسيح، لم تُكتَبْ بِالحِبر، بل بِرُوحِ اللهِ الحَيّ، لا في أَلواحٍ مِن حَجَر، بل في أَلواحٍ هي قُلوبٌ مِن لَحم". لقد كتب الرّوح القدس هذه الرّسالة الرّائعة والتي هي المسيح في قلب مريم أوّلاً – كما يكتب القدّيس أوغسطينس – "فيما كان جسد المسيح يتكوّن في حشا مريم كانت حقيقة المسيح تُطبع في قلبها".
فمريم قد عاشت التجسّد كحدث مواهبيٍّ في أسمى درجاته جعلها النموذج للنفس التي تتّقد بالرّوح. لقد شكّل التجسّد عَنصَرَتَها. هناك العديد من تصرّفات وأقوال مريم، لاسيّما في رواية زيارتها للقدّيسة أليصابات، لا يمكننا فهمها ما لم ننظر إليها في ضوء هذه الخبرة الروحيّة التي لا تعرف الحدود. كلّ ما نراه يتحقـَّق بشكلٍ مرئيٍّ في شخص لمسته النعمة ينبغي علينا أن نعترف به بشكلٍ مميّز في مريم في البشارة. فمريم هي أوّل من اختبر "سكرة الرّوح الرزينة" ونشيدها "تعظّم نفسي الرَّبّ" يشهد عليها. إنّها سكرة متواضعة، إذ أن تواضع مريم بعد التجسّد يَظهر لنا كإحدى العجائب الكبرى للنعمة الإلهيّة، لأنَّ مريم بقيت متواضعة وبسيطة كما ولو أن شيئًا لم يحدث في حياتها.
نستعيد الآن بسرعة المسيرة التاريخيّة التي من خلالها وصلت الكنيسة إلى التأمُّل بهذه الحقيقة بملئها: أمّ الله! خليقة أمّ الخالق! "عذراء أمّ وابنة ابنك – متواضعة وأسمى من كلّ خليقة" هكذا يحيّيها القدّيس برناردوس. في البدء وفي المرحلة التي طغت عليها الهرطقة الغنّوصيّة والدوسيتيّة كان هؤلاء الهراطقة ينظرون إلى أمومة العذراء وكأنّها مجرّد أمومة جسديّة أو بيولوجيّة وينكرون أنّ المسيح قد أخذ جسدًا بشريًّا حقيقيًّا، وبالتالي لمواجهتهم كان ينبغي أن يتمَّ التأكيد بقوّة على أنّ يسوع هو ابن مريم وثمرة أحشائها وبأنّ مريم هي الأمّ الحقيقيّة والطبيعيّة ليسوع. وفي هذه المرحلة القديمة التي تمّ فيها التأكيد على الأمومة الحقيقيّة والطبيعيّة لمريم ضدّ الغنّوصيّين والدوسيتيّين ظهر مع أوريجانوس في القرن الثالث لقب "Theotókos" أمّ الله، الذي قاد الكنيسة إلى اكتشاف أمومة إلهيّة أعمق.
أمّا خلال حقبة الخلافات الكريستولوجيّة في القرن الخامس لم تعد المشكلة الأساسيّة حول إنسانيّة يسوع المسيح وإنّما حول وحدة شخصه، وبالتالي لم يعد يُنظر إلى أمومة مريم بالإشارة إلى طبيعة المسيح البشريّة وإنّما بالإشارة إلى شخص الكلمة الذي صار بشرًا.
فالعلاقة بين مريم ويسوع ليست علاقة ذات طابع جسديّ فقط وإنّما هي ذات طابع مِيتَافِيزِيقِيّ وهذا الأمر يضعها في مستوى عال ويخلق علاقة فريدة أيضًا بينها وبين الآب السماويّ ممّا جعل القدّيس إغناطيوس الإنطاكيّ يدعو يسوع "ابن الله وابن مريم". مع مجمع أفسس أصبحت هذه الحقيقة اكتسابًا للكنيسة إذ نقرأ في إحدى النصوص التي وافق عليها المجمع: "إن كان هناك من لا يعترف بأنّ الله هو حقًا الـ"عمّانوئيل" وبالتالي أن العذراء القدّيسة إذ ولدت كلمة الله المتجسّد بحسب الجسد هي أمّ الله فليكن محرومًا". لقد تعرّض، خلال التاريخ، لقب "Theotókos" "أمّ الله" لخطر أن يصبح سلاح حرب بين تيّارات لاهوتيّة متضاربة بدلاً من أن يكون تعبيرًا عن الإيمان والتقوى اللذين تحملهما الكنيسة لمريم؛ وهنا نجد الإسهام الذي قدّمه الكُتّاب اللاتين حول هذا الموضوع ولاسيّما القدّيس أوغسطينس في تطور ونموّ اللاهوت المريميّ. إذ أصبح يُنظر إلى أمومة العذراء مريم كأمومة في الإيمان، انطلاقـًا من كلمات يسوع: "إِنَّ أُمِّي وإخوَتي هُمُ الَّذينَ يَسمَعونَ كَلِمَةَ اللهِ ويَعملونَ بِها".
يتمُّ الآن تتويج أمومة مريم الجسديّة والمِيتَافِيزِيقِيّة بأمومة روحيّة أو بأمومة الإيمان التي تجعل من مريم التلميذة الأولى والمطيعة للمسيح، والثمرة الأجمل لهذه النظرة الجديدة نحو العذراء هي الأهميّة التي يتّخذها موضوع قداسة مريم. عنها يكتب القدّيس أوغسطينس أيضًا: "للمجد الواجب للرب لا ينبغي حتى ذكرها عندما نتحدّث عن الخطيئة" وقد عبّرت الكنيسة اللاتينية عن هذا الامتياز بلقب "البريئة من دنس الخطيئة الأصليّة" والكنيسة اليونانيّة من خلال لقب "الكليّة القداسة" (Panhagia).
سنحاول أن نرى الآن ماذا يعني لنا سرّ ولادة يسوع من العذراء مريم بفضل عمل الرّوح القدس. هناك تأمل حول الميلاد قد تناقله عبر العصور الملافنة العظام ومعلّمو الرّوح في الكنيسة: كأوريجانس والقدّيس أوغسطينس والقدّيس برناردوس وغيرهم، ويقول ما مفاده: "ماذا ينفعني إن ولد المسيح لمرّة واحدة من مريم في بيت لحم إن لم يولد الإيمان في قلبي أيضًا؟" ويكتب القدّيس أمبروسيوس "أين تتمُّ ولادة المسيح بالمعنى الأعمق إن لم تكن في قلبك ونفسك؟".
ويجمع القدّيس توما الأكويني تقليد الكنيسة المستمرّ عندما يشرح القدّاسات الثلاثة التي يُحتفل بها في الميلاد كإشارة على الولادة الثلاثيّة للكلمة الإلهيّ: الولادة الأزليّة من الآب والولادة الزمنيّة من العذراء والولادة الروحيّة من نفس المؤمن، ويكتب القدّيس مكسيمس المعترف بهذا السياق أنّ كلمة الله يريد أن يكرّر في جميع البشر سرَّ تجسّده"، وكصدى لهذا التقليد رفع القدّيس يوحنّا الثالث والعشرون الصّلاة في رسالته بمناسبة الميلاد قائلاً: "يا كلمة الآب الأزليّ، ابن الله وابن مريم، جدّد فينا اليوم أيضًا، في عمق نفوسنا سرّ ميلادك العجيب".
يدعونا الرّوح القدس إذًا كي نعود إلى القلب لنحتفل به بميلاد حميم وحقيقيّ يجعل الميلاد الذي نحتفل به خارجيًّا في الطقوس والتقاليد حقيقيًّا أيضًا. إنّ الآب يريد أن يولِّد فينا كلمته لكي يتمكّن من أن يتوجّه إلى يسوع وإلينا معه بتلك الكلمات العذبة: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك".
يسوع نفسه يريد أن يولد في قلوبنا وهكذا ينبغي علينا أن نتأمّل به بالإيمان كما ولو أنّه يعبر في وسطنا خلال هذه الأيّام الأخيرة من زمن المجيء ويقرع على أبوابنا، كما في تلك الليلة في بيت لحم، باحثًا عن قلبٍ يمكنه أن يولد فيه بشكلٍ روحيّ!
إذاعة الفاتيكان.