ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الرابع لزمن الصوم في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "الروح القدس يُدخلنا في سرِّ قيامة المسيح".
استهلّ الأب كانتالاميسا تأمّله انطلاقًا من قيامة المسيح كحدث تاريخي وقال
يمكننا أن نحدّد القيامة كحدث تاريخي بالمعنى الشائع للعبارة، أي أنها حدثت فعلاً وليست أمرًا خرافيًّا وأسطوريًّا. سنرى إذًا كيف يمكننا أن نقدّم تقارُبًا تاريخيًّا أيضًا لقيامة المسيح؛ لا لأننا نريد أن نقنع أحدًا بذلك وإنما وكما يكتب القديس لوقا في بداية إنجيله: "لِنَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّينا مِن تَعليم" وننقله للآخرين.
إن إيمان الرسل لم يتحمّل تجربة موت يسوع، إذ مع آلامه وموته غمر الظلام كلّ شيء، وتظهر حالتهم من خلال كلمات تلميذي عماوس: "كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل ومعَ ذلكَ كُلِّه فهذا هوَ اليَومُ الثَّالِثُ مُذ جَرَت تِلكَ الأُمور". نحن أمام نقطة ميتة من الإيمان، وبالتالي يمكن اعتبار مسألة يسوع قضيّة مغلقة.
ولكن إن انتقلنا إلى بضعة أسابيع بعد هذا الحدث فماذا نجد؟ نجد مجموعة من الرجال، أولئك الذين كانوا مع يسوع، يردّدون بأعلى الصوت أن يسوع الناصري هو المسيح والرب وابن الله الحي والذي سيأتي ليدين العالم. ذلك الرجل لم يكن مُهمٌّ بالنسبة لشعب إسرائيل وحسب وإنما لجميع الناس وفي كل زمن أيضًا. يقول القديس بطرس: "الحَجَر الَّذي رَذَلَه البَنَّاؤونَ هو الَّذي صارَ رَأسًا لِلزَّاوِيَة"، أي مبدأ بشريّة جديدة. وبالتالي ومنذ الآن فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص غير اسم يسوع الناصري.
إن القيامة هي حدث تاريخي بمعنى مميّز جدًّا. إنها حدث على حدود التاريخ كذلك الخيط الذي يفصل البحر عن اليبس. إنها داخل التاريخ وخارجه في الوقت عينه، من خلالها ينفتح التاريخ على ما هو فوق التاريخ أي على الإسكاتولوجيا. وهذا الأمر يجعل من القيامة حدثًا لا يمكننا أن نشهد له ونفهمه من خلال تصنيفاتنا العقليّة المرتبطة بالخبرات التي نقوم بها في الزمان والمكان، لأنّه ما من أحد قد شاهد لحظة قيامة يسوع من الموت ولا يمكن لأحد أن يقول أنّه رأى يسوع يقوم من الموت وإنما أنّه رآه حيًّا بعد أن قام من الموت. لذلك فالقيامة هي حدث يُعرف بعد بحث إستقرائي (a posteriori). فكما يُظهر الحضور الجسدي للكلمة في مريم واقع أنّه تجسّد هكذا أيضًا يُظهر الحضور الروحي للمسيح في الجماعة - والذي تؤكِّده الظهورات - أنّه قام. وهذا الأمر يشرح لماذا لا نجد أي مرجع تاريخيّ زمنيّ لقيامة يسوع؛ لأن هذا الحدث لم يكن له أهميّة ومعنى إلا للذين اختبروا تبعاته داخل الجماعة. فكيف يمكننا أن نتحدّث إذًا عن تقارب تاريخي للقيامة؟
هناك عنصران يمكننا تقديمهما للدراسة التاريخيّة ويسمحان بالحديث عن القيامة وهما أولاً إيمان التلاميذ المفاجئ والذي لا يمكن شرحه، إيمان قوي وشجاع صمد حتى إزاء محن الاستشهاد؛ وثانيًا تفسيرات هذا الإيمان التي تركها لنا المعنيّون بهذا الأمر. فما هي النقطة النهائية إذًا التي يمكن أن يصل إليها البحث التاريخي فيما يتعلق بالقيامة؟ يمكننا أن نجدها في كلمات تلميذي عماوس: "إنَّ نِسوَةً مِنَّا قد حَيَّرنَنا، فإِنَّهُنَّ بَكَرنَ إِلى القَبْرِ فلَم يَجِدنَ جُثمانَه فرَجَعنَ وقُلنَ إِنَّهُنَّ أَبصَرنَ في رُؤيةٍ مَلائكةً قالوا إِنَّه حَيّ. فذهَبَ بَعضُ أَصحابِنا إِلى القَبر، فوَجَدوا الحالَ على ما قالَتِ النِّسوَة. أَمَّا هو فلَم يَرَوه". والتاريخ أيضًا قد ذهب إلى القبر فوجد الحال على ما قاله الشهود ولكنّه لم يرَ القائم من الموت. وبالتالي لا يكفي أن نتأكّد من الأحداث تاريخيًّا وحسب وإنما هناك الحاجة لرؤية القائم من الموت وهذا الأمر لا يمكن للتاريخ أن يعطيه لأن الإيمان وحده قادر على إعطائه.
بالانتقال من التاريخ إلى الإيمان يتغيّر أيضًا أسلوب التحدّث عن القيامة. إن لغة العهد الجديد ولغة الليتورجيّة الكنسيّة هما أسلوب حازم وموثوق به ولكنّه لا يقوم على إثباتات جدليّة؛ يقول القديس بولس: "إِنَّ المسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات وهو بِكرُ الَّذينَ ماتوا" ولكن هذا التأكيد هو على صعيد الإيمان وليس على صعيد الإثباتات، وننشد في الليتورجيا يوم الفصح: "نحن نعلم أن المسيح قد قام من الموت حقًّا" وبالتالي نحن لا نؤمن وحسب بل نحن متأكّدين أيضًا.
ولكن ما هي القيامة من وجهة نظر الإيمان؟ إنها شهادة الله حول يسوع المسيح. الله الآب الذي كان قد شهد ليسوع الناصري - خلال حياته - من خلال علامات وعجائب، قد وضع الآن ختمًا نهائيًّا لتأييده له من خلال إقامته من بين الأموات؛ ويصيغ القديس بولس هذه الشهادة في خطابه في أثينا إذ يقول: "إن الله قد جَعَلَ لِلنَّاسِ أَجمَعينَ بُرهانًا على الأمر، إِذ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات" وبالتالي فالقيامة هي الـ "نعم" القويّة التي قالها الله والـ "آمين" التي أعلنها على حياة ابنه يسوع.
تابع واعظ القصر الرسولي يقول وحدها القيامة تشكّل ختم ألوهية المسيح الأصيلة. ولذلك أجاب يسوع الذين طلبوا منه علامة: "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!" ويقول في مكان آخر: "جيلٌ فاسدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بِآيةٍ ولَن يُعطى سِوى آيةِ يونان" الذي بقي في جوف الحوت ثلاثة أيام. لذلك فإن القديس بولس مُحقٌّ في أن يضع القيامة أساسًا للإيمان بأسره: "وإِن كانَ المسيحُ لم يَقُم، فتَبشيرُنا باطِلٌ وإِيمانُكُم أَيضًا باطِل. بل نَكونُ عِندَئِذٍ شُهودَ زُورٍ على الله، لأَنَّنا شَهِدْنا على اللهِ أَنَّه قد أَقامَ المسيح وهو لم يُقِمه، هذا إِن صَحَّ أَنَّ الأَمواتَ لا يَقومون. وإِذا كانَ رَجاؤُنا في المسيحِ مَقصورًا على هذهِ الحَياة، فنَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرثى لَهم".
إن قيامة المسيح تطالنا وهي سرّ لنا لأنّها أساس الرجاء في قيامتنا من بين الأموات: "فإِذا كانَ الرُّوحُ الَّذي أَقامَ يسوعَ مِن بَينِ الأَمواتِ حالاًّ فيكُم، فالَّذي أَقامَ يسوعَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات يُحيي أَيضًا أَجسادَكُمُ الفانِيةَ بِرُوحِه الحالِّ فيكُم". إن الإيمان بحياة في العالم الآخر تظهر بوضوح في آخر العهد القديم، ويشهد عليها سفر المكابيين الثاني عندما قال أحد الإخوة السبعة الذين قتلهم الملك أنطيوخس: "إِذا مُتنا في سَبيلِ شَرائِعِه، سيُقيمُنا الله لِحَياةٍ أَبَدِيَّة". وبالتالي فهذا الإيمان لا يولد بشكل مُفاجئ ومن لا شيء بل هو يتجذّر بشكل حيوي بالوحي الكتابي السابق ويشكّل ثمرته الأكثر نضجًا. وفكر يسوع حول هذا الموضوع يظهر في حديثه مع الصدوقيين حول المرأة التي كان لها سبعة أزواج. لم يكن الصديقيّون يؤمنون بقيامة الموتى وبالتالي وبالإشارة إلى شريعة موسى - إِذا ماتَ لامرِئٍ أَخٌ لَه امرَأَةٌ ولَيسَ له ولَد، فَليَأخُذ أَخوهُ المَرأةَ ويُقِم نَسلاً لأخيه -، قدّموا ليسوع حالة افتراضية لامرأة تزوجت سبعة أزواج على التوالي استنادا إلى تلك الشريعة. وفي النهاية، وإذ كانوا واثقين بأنّهم قد أظهروا استحالة القيامة، سألوه: "هذِهِ المَرأَةُ في القِيامة لأَيِّهم تَكونُ زَوجَة، لأنَّ السَّبعَةَ اتَّخَذوها امَرأَةً". وبدون التحول عن شريعة موسى، الإطار الذي اختاره خصومه، يكشف يسوع في بضع كلمات عن خطأ الصدوقيين أولاً ثم يصححه؛ ويعطي الإيمان في القيامة الأساس الأكثر عمقا وإقناعا.
إن الإيمان بالقيامة لا يقوم على جواب يسوع للصدوقيين وإنما على واقع قيامته من بين الأموات، ويعلن القديس بولس في هذا الصدد: "إِذا أُعلِنَ أَنَّ المسيحَ قامَ مِن بَينِ الأَموات، فكَيفَ يَقولُ بَعضُكُم إِنَّه لا قِيامةَ لِلأَموات؟ فإِن لم يَكُنْ لِلأَمواتِ مِن قِيامة، فإِنَّ المسيحَ لم يَقُمْ أَيضًا".
هذا ويجيب الإيمان المسيحي بالقيامة على رغبة عميقة في قلب الإنسان كما يكتب القديس بولس: "إِنَّنا، ونَحنُ في هذه الحال، نَئِنُّ حَنينًا إِلى لُبْسِ مَسكِنِنا السمَّاوِيِّ فَوقَ الآخَر، على أَن نَكونَ لابِسينَ لا عُراة. ولِذلكَ نَئِنُّ مُثْقَلينَ ما دُمْنا في هذِه الخَيمَة، لأَنَّنا لا نُريدُ أَن نَخلَعَ ما نَلبَس، بل نُريدُ أَن نَلبَسَ ذاك فَوقَ هذا، حَتَّى تَبتَلِعَ الحَياةُ ما هو زائِل. والَّذي أَعَدَّنا لِهذا المَصير هو اللهُ الَّذي أَعطانا عُربونَ الرُّوح". وبالتالي نحن لا نملك فقط وعدًا بالحياة الأبديّة وإنما أيضًا باكورة وعربون.
وكما تعلن البواكير ملء الحصاد وهي جزء منه هكذا العربون هو جزء من ملء امتلاك الروح، والروح الحال فينا هو الذي يؤكِّد لنا الاستمراريّة بين الحياة الحاضرة والأبديّة. وأما حول أسلوب القيامة فيخبرنا يسوع عن الوضع الروحي للذين يقومون من الموت: "أَمَّا الَّذينَ وُجِدوا أَهْلاً لأَن يَكونَ لَهم نَصيبٌ في الآخِرَةِ والقِيامةِ مِن بَينِ الأَموات، فَلا الرِّجالُ مِنهُم يَتَزوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ. فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا، لأنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامة".
الحقيقة هي أنّ كل ما يتعلّق بحالتنا في الحياة الأبديّة يبقى سرًّا لا يمكن سبرُ غوره، ليس لأنّ الله يريد أن يخفيه عنا ولكن لأننا لا نملك الوسائل لشرحه، لأن الأبديّة هي الله والدخول في الحياة الأبديّة يعني الدخول، بفضل النعمة، لمشاركة الله في طبيعته.
في المسيح القائم من الموت وبفضله يمكننا أن نلبس الله. يصف القديس بولس في هذا السياق ما ينتظره بعد الموت كـ رَّحيل ليَكونَ مع المسيح" (فيل 1، 23). ويظهر هذا الأمر أيضًا في كلمات يسوع للص اليمين: "اليوم تكون معي في الفردوس"، فالفردوس إذًا هو أن نكون مع المسيح كورثة معه، وبالتالي تصبح الحياة الأبديّة إعادة اتحاد الأعضاء بالرأس، أي متّحدين معه بالمجد "لأَنَّنا، إِذا شارَكناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجدِه أَيضًا".
إذاعة الفاتيكان.