ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الثالث لزمن الصوم في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "الروح القدس يُدخلنا في سرِّ موت المسيح".
استهل الأب كانتالاميسا تأمّله بالقول تقول لنا الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح "قَرَّبَ نَفسَه إلى اللهِ بِروحٍ أَزَلِيٍّ قُربانًا لا عَيبَ فيه" (عب 9، 14). "روح أزلي" هو تعبير آخر للإشارة إلى الروح القدس كما نقرأ في ترجمة قديمة للنص. هذا الأمر يعني أنّ يسوع، كإنسان، قد نال الروح القدس الذي كان فيه الدفع ليقدِّم ذاته ذبيحة للآب والقوّة التي عضدته خلال آلامه.
ما تمّ بالنسبة للذبيحة تمَّ أيضًا بالنسبة لصلاة يسوع. إذ وفي أحد الأيام "تَهَلَّلَ يسوع بِدافِعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس فقال: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماءِ والأَرض" (لوقا 10، 21). لقد كان الروح القدس يولّد فيه الصلاة ويدفعه ليقدّم ذاته ذبيحة للآب.
تظهر العلاقة بين الروح القدس وموت يسوع بشكل خاص في إنجيل يوحنا، إذ يقول الإنجيلي بشأن وعد "أَنهار الماءِ الحَيّ": أنّه " لَم يكُن هُناكَ بَعدُ مِن رُوح، لأَنَّ يسوعَ لم يَكُن قد مُجِّد" (يوحنا 7، 39)، أي أنّه لم يكُن بعد قد رُفِع على الصليب. ومن على الصليب "أسلم يسوع الروح"، والذي يُرمز إليه بالماء والدم، ولذلك يكتب القديس يوحنا في رسالته الأولى "والَّذينَ يَشهَدونَ ثلاثة: الرُّوحُ والماءُ والدَّم" (1 يوحنا 5، 7- 8).
إن الروح القدس يحمل يسوع إلى الصليب ومن الصليب يمنح يسوع الروح القدس. عند ولادته وبشكل عام في معموديّته أُعطي الروح القدس ليسوع، أما في موته فيسوع هو الذي يعطي الروح القدس: "لَمَّا رَفعَهُ اللهُ بِيَمينِه، نالَ مِنَ الآبِ الرُّوحَ القُدُسَ المَوعودَ بِه فأَفاضَه، وهذا ما تَرَونَ وتَسمَعون" (أعمال 2، 33).
ينتهي قانون الإيمان بالكلمات: "ونترجّى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي"، وبالتالي فهو لا يذكر المرحلة التي تسبق القيامة والحياة الأبديّة أي الموت. ولكي نتمكن من تقييم التغيير الذي أحدثه المسيح إزاء الموت علينا أن نرى ما هي العلاجات التي جربها الإنسان إزاء مشكلة الموت، والتي يحاول اليوم أيضًا أن يعزّي نفسه من خلالها لأن الموت هو مشكلة الإنسان الأولى.
وبالتالي فإن حياتنا هي أكثر من "حياة مائتة"، لا بل ينبغي علينا أن نعتبرها موتًا حيويًّا وفكر القديس أغوسطينوس هذا قد استعاده مارتن هايدغر الذي أدخل فكرة الموت إلى الفلسفة إذ حدّد الحياة والإنسان كـ "وجود متناه" فليس الموت إذاً حادثاً يطرأ على الحيّ، بل الحيّ يحمل الموت بين جوانحه منذ أن بدأ حياته. وبالتالي فكل لحظة نعيشها هي لحظة نجتزئها من الحياة ونسلّمها إلى الموت.
لكنَّ الشعراء هم الذين، وأكثر من الفلاسفة، قد شرحوا الموت بكلمات حكيمة حقيقيّة وبسيطة، ومن بينهم الشاعر جوزيبيه أونغاريتي الذي وإذ يتحدث عن شعور العسكر في خنادق الحرب وصف حالة كل إنسان إزاء سرّ الموت وكتب: "هو كأوراق الأشجار في فصل الخريف".
حتى الكتاب المقدّس في العهد القديم لم يعطِ جوابًا واضحًا عن الموت. نجد إشارة إلى الموت في الكُتب الحكميّة وإنما وعلى الدوام بشكل أسئلة ولا كأجوبة. سفر أيوب والمزامير وسفر الجامعة وسفر يشوع ابن سيراخ وسفر الحكمة جميع هذه الأسفار تخصص اهتمامًا خاصًّا لموضوع الموت، إذ نقرأ في أحد المزامير: "علِّمنا كَيفَ نَعُدُّ أَيَّامَنا فنَنفُذَ إلى قَلبِ الحِكمَة" (مز 90، 12). كما يشير الكتاب المقدّس أيضًا إلى آراء المُشكّكين في ذاك الزمن: "قَصيرَةٌ حَزينة حَياتُنا ولَيسَ لِنِهايةِ الإِنسانِ من دَواء ولَم يُعْلَم قَطّ أَنَّ أَحَداً رَجَعَ مِن مثوى الأَمْوات. إِنَّنا وُلدْنا اتَفاقَا وسنَكونُ مِن بَعد ُكأنّنا لم نَكُنْ قَط لأَنَّ النَّسمَةَ في مَناخيرنا دُخان والنُّطقَ شَرارَةٌ مِن خَفَقانِ قُلوبِنا" (حكمة 2، 1- 2)؛ ففي سفر الحكمة فقط يمكننا أن نجد بشكل أوضح فكرة المكافأة السماويّة إذ نقرأ "أَمَّا نُفوسُ الأَبْرارِ فهي بِيَدِ الله فلا يَمَسَّها أَيّ عَذاب" بالرغم من غياب المعنى الدقيق لهذا القول.
كيف كانت إذًا ردّة فعل الإنسان إزاء هذه الضرورة القاسية؟ أحد الأساليب السريعة كان عدم التفكير بالأمر والتلهّي، فبالنسبة لإبيقور، على سبيل المثال، يشكّل الموت مشكلة زائفة، وقد كان يقول حين نموت، فإننا لا ندرك موتنا، بما أن وعينا (روحنا) يكفُّ عن الوجود حين نموت.
وإن كنا لا نشعر بشيء، لا عقليا ولا جسديا، حين نموت؛ فإنه من الحمق السماح للخوف من الموت أن يسبب لنا الألم ما دمنا أحياءً. وبالتالي فإن موضوع الموت لا يخصّنا. من ثمّ هناك العلاجات الإيجابية، والأكثر شموليّة نسميه "النسل" وهو الاستمرار في الحياة من خلال الأبناء، وهناك علاج آخر وهو الاستمرار في الحياة من خلال الشُهرة. علاج آخر أيضًا هو التقمُّص ولكنّه نوع من الغباء لأنّ حتى الذين يعترفون بهذه العقيدة كجزء من ثقافتهم وديانتهم يعرفون جيّدًا أن التقمُّص ليس علاجًا أو تعزية وإنما هو قصاص لأنّه تأجيل يُعطى للنفس لأنّه لا يزال عليها أن تكفّر من أجل شيء ما. أما في أيامنا فنجد أيضًا حركة على مستوى عالمي وتُدعى "ما بعد الإنسانية" أو "Transhumanism" ونواتها هي القناعة بأن الجنس البشري، وبفضل استخدام العلوم والتكنولوجيا الجديدة، يسير نحو تخطٍ جذريٍّ لذاته وصولاً إلى التمكن من العيش لأجيال طويلة وربما إلى الأبد.
ولكن، هناك علاج واحد وحقيقي إزاء الموت ونغُشُّ العالم إن لم نعلنه نحن المسيحيون بالقول والحياة وهو ما يعلنه القديس بولس الرسول للعالم: "فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَت في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ المَوت، وهكذا سَرى المَوتُ إِلى جَميعِ النَّاسِ لأَنَّهُم جَميعاً خَطِئوا… ولكِن لَيسَتِ الهِبَةُ كَمِثْلِ الزَّلَّة: فإِذا كانَت جَماعَةُ النَّاسِ قد ماتَت بِزَلَّةِ إِنسانٍ واحِد، فبِالأَوْلى أَن تَفيضَ على جَماعَةِ النَّاسِ نِعمَةُ اللهِ والعَطاءُ المَمْنوحُ بنِعمَةِ إِنسانٍ واحِد، أَلا وهو يسوعُ المسيح. وإِذا كانَ المَوتُ بِزَلَّةِ إِنسانٍ واحِد قد سادَ عن يَدِ إِنسانٍ واحِد، فأَحْرى أُولئِكَ الَّذينَ تَلَقَّوا فَيضَ النِّعمَةِ وهِبَةَ البِرِّ أَن يَسودوا بالحَياةِ بيَسوعَ المسيحِ وَحدَه" (روما 5، 12- 17). وانتصار المسيح على الموت الذي تصفه الرسالة الأولى إلى أهل كورنتس: "قدِ ابتَلَعَ النَّصرُ المَوت: فأَينَ يا مَوتُ نَصرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟ إِنَّ شَوكَةَ المَوتِ هيَ الخَطيئَة، وقُوَّةَ الخَطيئةِ هيَ الشَّريعة. فالشُّكرُ للهِ الَّذي آتانا النَّصرَ عَن يَدِ رَبِّنا يسوعَ المسيح!" (1 كور 15، 54- 57).
إن العنصر المُقرّر يرتبط بلحظة موت المسيح الذي "مِن أَجلِهِم جَميعًا مات" (2 كور 5، 15). ولكن ما هو الأمر الحاسم الذي حصل في تلك اللحظة لدرجة أنَّه غيّر وجه الموت؟ يمكننا أن نصوّره بهذا الشكل إن ابن الله قد نزل إلى القبر، كمن ينزل إلى سجن مُظلم ولكنّه خرج من الجهة الأخرى؛ لقد فتح ثُغرة في الجهة الأخرى حيث يمكن لجميع الذين يؤمنون به أن يتبعوه من خلالها.
يكتب أحد الآباء القدامى في هذا السياق: "لقد أخذ على عاتقه آلام الإنسان المتألّم في جسده القادر على الألم، ولكنّه بواسطة الروح الذي لا يمكنه أن يموت، قتل المسيح الموت الذي كان يقتل الإنسان". أما يوحنا الذهبي الفم فيقول: "صحيح أننا لا زلنا نموت كما فيما مضى ولكننا لا نبقى في الموت وبالتالي فهذا ليس موتًا، لأن قوّة الموت الحقيقيّة هي أن الميت لا يمكنه العودة إلى الحياة ولكن إن كان المائت ينال حياة جديدة وأفضل بعد الموت فهذا ليس موتًا بعد الآن وإنما رقاد". جميع هذه الأساليب لشرح معنى موت المسيح هي صحيحة ولكنها لا تعطينا الشرح الأعمق له. ولذلك ينبغي علينا أن نبحث عنه في ما أضافه يسوع بموته على الحالة البشريّة؛ أي في محبّة الله وليس في خطيئة الإنسان. فيسوع قد تألم ومات لا ليفتدي الإنسان وحسب وإنما لكي يقيم الحب في ألم وموت البشر أيضًا.
فماذا تغيّر إذًا مع يسوع فيما يتعلّق بالموت؟ كلُّ شيء ولا شيء! لاشيء فيما يتعلّق بالعقل وكلُّ شيء فيما يتعلّق بالإيمان. لم تتغيّر ضرورة النزول إلى القبر ولكن أُعطيت لنا الإمكانيّة للخروج منه لأنّ القائم من الموت قد نزل إلى جحيم وأقام معه آدم وحواء وخلفهما جميع الذين تمسّكوا به.
وهذا الأمر يشرح لنا موقف المؤمن المتناقض إزاء الموت، إذ يشبه كثيرًا موقف الآخرين ولكنّه يختلف عنه كل الاختلاف كما نقرأ في الرسالة إلى أهل تسالونيقي: "لا نُريدُ، أَيُّها الإِخوَة، أَن تَجهَلوا مَصيرَ الأَموات لِئَلاَّ تَحزَنوا كَسائِرِ النَّاسِ الَّذينَ لا رَجاءَ لَهم. فأَمَّا ونَحنُ نُؤمِنُ بِأَنَّ يَسوعَ قد ماتَ ثُمَّ قام، فكَذلِك سيَنقُلُ اللهُ بِيَسوعَ ومعَه أُولَئِك الَّذينَ ماتوا" (1 تسالونيقي 4، 13- 14).
فالموت ليس نهاية الحياة بالنسبة للمؤمن وإنما هو بداية للحياة الحقيقيّة، إنّه ولادة ومعموديّة؛ ولادة لأنّه عندها تبدأ الحياة الحقيقيّة التي لا تحمل إلى الموت بل تدوم إلى الأبد، ومعموديّة لأن يسوع يصف موته بهذا الشكل: "عَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!" (لوقا 12، 50)، أما القديس بولس فيتحدث في هذا السياق عن المعموديّة ويقول "دُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة" (روم 6، 4). فالمسيح – نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين – قد جاء كي "يُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت" (عب 2، 15)، وبالتالي فالمسيحية لا تسير قدمًا بفكرة موتنا وإنما بفكرة موت المسيح!
لذلك فالأمر الأكثر فعالية ليس تأمّلنا بموتنا وإنما بآلام وموت المسيح، لأنّه تأمل يولّد في نفوسنا التأثُّر والامتنان ويجعلنا نهتف مع بولس الرسول: "لقد أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًَجْلي!" (غلاطية 2، 20). وبالتالي نختم تأملنا بهذه الصلاة البسيطة والغنيّة: "نسجد لك أيها المسيح ونباركك، لأنّك بصليبك المقدّس خلّصت العالم".
إذاعة الفاتيكان.