ألقى واعظ القصر الرّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثاني لزمن المجيء تحت عنوان "الرّوح القدس وموهبة التمييز" في كابلة أمّ الفادي في القصر الرّسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّ تأمُّله بالقول:
نتابع تأمُّلنا حول عمل الرّوح القدس في حياة الكنيسة والمسيحيّ. يتحدّث القدّيس بولس عن موهبة خاصّة للرّوح القدس وهي "التَّميِيزُ ما بَينَ الأَرواح"، وهي موهبة تسمح بتمييز الكلمات النبويّة التي يتمّ التلفُّظ بها في جمعيّة ما بين تلك التي تأتي من الرّوح القدس وتلك التي تأتي من أرواح أخرى.
فالتمييز يقوم على: "اختبار الأرواح لنرى إن كانت من عند الله حقًّا" (1 يوحنا 4، 1-6). إنّ المعيار الأساسيّ للتمييز بالنسبة للقدّيس بولس هو الاعتراف بالمسيح كربّ؛ أمّا بالنسبة للقدّيس يوحنّا فهو الاعتراف بأنّ يسوع قد جاء في الجسد أي بالتجسُّد.
هناك إطاران ينبغي أن تتمّ فيهما ممارسة هذه الموهبة لتمييز صوت الرّوح القدس:
الإطار الكنسيّ والإطار الشخصيّ.
في الإطار الكنسيّ يتمّ تمييز الأرواح بشكل نافِذ من خلال التعليم، وأريد في هذا السّياق أن أتوقّف عند نقطة مميّزة يمكنها أن تساعد المناقشات القائمة في الكنيسة حول بعض المسائل الخاصّة، وهي تمييز علامات الأزمنة، لاسيّما وأن المجمع الفاتيكاني الثاني قد أعلن: "إنَّ مِن واجبَ الكنيسةِ أن تتفحَّصَ في كلِّ آنٍ علاماتَ الأزمنةِ وتُفسِّرُها على ضوءِ الإنجيل، فتستطيعَ أن تُجيبَ بصورةٍ مُلائمةٍ لكلِّ جيلٍ، على أسئلةِ الناس الدائمةِ حولَ مَعنى الحياةِ الحاضرةِ والمستقبلة، وحول العلاقاتِ القائمةِ بينهما" (فرح ورجاء، عدد 4).
في العهد القديم كان المعيار الأساسيّ الذي على أساسه كان يتمُّ تخطّي القوانين السابقة الفهم الأفضل لروح العهد والتوراة، أمّا في الكنيسة فالمعيار هو قراءة مستمرّة للإنجيل في ضوء الأسئلة الجديدة التي تُطرح عليه.
نحن نعرف أنّه بإمكاننا أن نلخِّص قاعدة تصرّف يسوع في الإطار الأخلاقيّ بكلمات قليلة: "لا للخطيئة، نعم للخاطئ": ما من أحد أقصى منه في إدانة الغنى غير العادل ولكنّه دعا نفسه إلى بيت زكا وبمجرّد ذهابه إليه غيّره؛ أدان الزنى ولكنّه غفر للزانية وأعاد إليها الرّجاء؛ أعاد التأكيد على عدم انحلال الزواج ولكنّه تحدّث مع السامريّة التي كان لديها خمسة أزواج وكشف لها السرّ الذي لم يكشفه لأحد آخر بهذا الشكل الواضح: " أَنا هو، (المسيح) أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4، 26).
تشكّل المجمعيّة الأسقفيّة العامل الأساسيّ للقيام بمهمّة تمييز علامات الأزمنة هذه، ونقرأ في نصّ الدستور العقائديّ "نور الأمم" أنّها النظام الذي بحسبه كان الأساقفة القائمون في العالم أجمع، يعيشون في الشركة فيما بينهم ومع أسقف روما و"التي كان عليها أيضاً أن تقرِّر معاً المشاكل الهامّة، وذلك بعد أن يكون الرأي قد أخضع لحكم الكثيرين" (عدد 22).
ونجد لها مثالاً مؤثِّرًا في المجمع الأول في كنيسة أورشليم، حيث تمّت معالجة وجهتي نظر متضاربتين حول اليهود الذين آمنوا والانفتاح على الوثنيِّين، فوَقع بَينَهم "خِلافٌ وجِدالٌ شديد" ولكنَّ هذا الأمر سمح لهم في النهاية أن يعلنوا القرار من خلال هذه الصيغة الرائعة: "لقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا..." (أعمال 15، 28).
يمكننا أن نرى كيف يقود الرّوح القدس الكنيسة بأسلوبين مختلفين: أحيانًا بشكل مباشر ومواهبيّ من خلال الوحي والإلهام النبويّ، وأحيانًا أخرى من خلال المجمعيّة الأسقفيّة من خلال المناقشة الصبورة والصعبة بين الأطراف وأوجه النظر المختلفة. إنّ خطاب بطرس في يوم العنصرة وفي بيت كورنيليوس يختلف كلّ الاختلاف عن الخطاب الذي ألقاه ليبرّر قراره أمام الشيوخ، فالخطاب الأوّل هو ذات طابع مواهبيّ أمّا الثاني فهو مجمعي. لذلك ينبغي علينا أن نثق في قدرة عمل الرّوح القدس حتى وإن بدا لنا أحيانًا أن العمليّة بأسرها هي خارجة عن سيطرتنا.
ننتقل الآن إلى التمييز في الحياة الشخصيّة، كموهبة فرديّة مرَّ تمييز الأرواح عبر العصور بتطوّر كبير. لقد رأينا أوّلاً أن هذه الموهبة قد استُعملت لتمييز إلهامات الآخرين الذين تكلّموا وتنبؤا في الجماعة ولكنّها استُعملت بعدها لتمييز الإلهامات الشخصيّة. إن جزءًا كبيرًا ممّا كتبه العديد من الكتّاب الروحيِّين حول موهبة المشورة يمكننا أن نطبّقه أيضًا على موهبة التمييز.
من خلال موهبة المشورة يساعد الرّوح القدس على تقييم الأوضاع وتوجيه الاختيارات ليس على أساس معايير الحكمة والتعقُّل فقط وإنّما أيضًا في ضوء مبادئ الإيمان. إنّ تمييز الأرواح الأوّل والأساسيّ هو الذي يسمح لنا أن نميِّز بين روح الله وروح العالم.
يعطينا القدّيس بولس معيارًا موضوعيًّا للتمييز وهو المعيار عينه الذي أعطانا يسوع إيّاه وهو معيار الثمار: أعمال الجسد تكشف لنا أنّ رغبة ما تأتي من الإنسان القديم الخاطئ، أمّا ثمار الرّوح فتكشف أنّها تأتي من الرّوح القدس.
قد لا يكفي أحيانًا هذا المعيار الموضوعي لأنّ الخيار ليس بين الخير والشرّ وإنّما بين خيارين ينبغي علينا أن نرى أيّهما يريده الله لنا في حالة معيّنة. لقد أجاب القدّيس إغناطيوس دي لويولا حول هذه الضرورة من خلال العقيدة التي طوّرها حول التمييز، فهو يدعونا لننظر إلى أمر بشكلٍ خاصّ: الاستعدادات الداخليّة والنوايا التي تختبئ خلف خيار معيّن.
لقد اقترح القدّيس إغناطيوس أساليب عمليّة لتطبيق هذه المعايير، وأحدها هو أنّه عندما نكون أمام خيارين ممكنين، ينبغي علينا أن نتوقّف أوّلاً عند الأوّل كما ولو أنّه الخيار الوحيد وأن أبقى على هذه الحالة لمدّة يوم أو أكثر وبالتالي أن أقيِّم ردات فعل قلبي إزاء هذا الخيار: إن كان يمنحني السّلام ويتناغم مع خياراتي الأخرى؛ إن وجدت في داخلي شيئًا يشجّعني على المضيّ في هذا الإتجاه أو على العكس هناك ما يقلقني؛ ومن ثمّ أكرِّر العمليّة عينها مع الفرضيّة الثانية، وهذا كلّه في جوّ من الصلاة والإستسلام لمشيئة الله والانفتاح على الرّوح القدس.
في أساس التمييز لدى القدّيس إغناطيوس نجد ما يسمّيه بالـ"لامبالاة السليمة" وهي تقوم على أن نضع أنفسنا في حالة جهوزيّة تامّة لقبول مشيئة الله رافضين كلّ تفضيل شخصيّ، تمامًا كميزان مستعد ليميل إلى الجهة التي سيكون فيها الثقل الأكبر، وبالتالي تصبح خبرة السّلام الداخليّ المعيار الأساسيّ لكلّ تمييز.
إن خطر بعض الأساليب الجديدة لفهم التمييز وممارسته هو التشديد على الجوانب النفسيّة لدرجة نسيان العامل الأساسيّ في كلّ تمييز والذي هو الرّوح القدس. يرى الإنجيليّ يوحنّا "المِسْحَةَ مِنَ القُدُّوس" (1 يوحنا 2، 20) كعامل حازم في التمييز، ويذكّر القدّيس إغناطيوس أيضًا أنّه وفي بعض الحالات وحدها مسحة الرّوح القدس تسمح لنا أن نميِّز ما ينبغي فعله.
فالتمييز في العمق ليس فنًّا أو تقنيّة وإنّما موهبة وعطيّة من الرّوح القدس. لكن الرّوح القدس لا ينشر في النفس نوره هذا بشكلٍ عجائبي وخارق وإنّما وبكلِّ بساطة من خلال كلمة الكتاب المقدّس، هكذا تمّت عمليات التمييز الكبيرة في الكنيسة.
من خلال الإصغاء لكلمة الإنجيل: "إن أردت أن تكون كاملاً..." فهم أنطونيوس ما كان ينبغي عليه أن يقوم به وبدأ الحياة الرهبانيّة. وبالطريقة عينها نال فرنسيس الأسيزي النور ليبدأ حركة العودة إلى الإنجيل، ويكتب في وصيّته "بعد أن أعطاني الربّ إخوةً لم يُرِني أحدٌ ما ينبغي عليَّ القيام به وإنّما العلي نفسه هو الذي كشف لي كيف ينبغي عليَّ أن أعيش بحسب الإنجيل"، لقد كشفه له خلال الذبيحة الإلهيّة لدى سماعه للنصّ الإنجيلي الذي يرسل فيه يسوع تلاميذه إلى العالم قائلاً: "لا تَحمِلوا لِلطَّريقِ شَيئاً، لا عصاً ولا مِزوَداً ولا خُبزاً ولا مالاً، ولا يَكُن لأَحَدٍ مِنكُم قَميصان" (لوقا 9، 3).
بالإضافة إلى الإصغاء للكلمة يشكّل فحص الضمير الشخصيّ الممارسة المعروفة للتمييز، ولكن لا ينبغي أن يُحدَّ فقط في الاستعداد للإعتراف وإنّما ينبغي أن يصبح قدرة دائمة على المثول تحت نظر الله والسماح له بأن يسبُرنا في أعماقنا.
إن أصبح فحص الضمير مجرّد استعداد للاعتراف يصبح فقط عمليّة تحديد للخطايا بدون أن يحملنا على علاقة حقيقيّة مع المسيح، فيصبح لائحة نواقص نعترف بها لنشعر أننا على ما يرام بدون أن نشعر بالتوبة الحقيقيّة التي تجعلنا نختبر فرح الحصول على يسوع كمخلِّص وفادي.
إنّ الثمرة الملموسة لهذا التأمُّل ينبغي أن تكون قرارًا متجدِّدًا بأن نكل كلّ شيء إلى إرشاد الرّوح القدس كنوع من الإرشاد الرّوحيّ. نقرأ في سفر الخروج: "وكانَ، إِذا أرتَفَعَ الغَمامُ عنِ المَسكِن، يَرحَلُ بَنو إِسْرائيلَ في جَميعِ مَراحِلِهم، وإِذا لم يَرتَفِع، لَم يَرحَلوا إِلى يَومِ اَرتِفاعِه" (خروج 40، 36- 37).
نحن أيضًا لا ينبغي علينا أن نقوم بشيء إن لم يحرّكنا الرّوح القدس وإن لم نستشِره قبل كلّ عمل. ونجد المثال المنير في حياة يسوع عينها، فهو لم يقم بأي عمل بدون الرّوح القدس. بالرّوح ذهب إلى الصّحراء وبقوّة الرّوح القدس عاد وبدأ بشارته؛ "بِدافِعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" اختار تلاميذه (أعمال 1، 2) وبالروح صلّى وقدّم نفسه إلى الآب.
علينا أن نستسلم للرّوح القدس كأوتار القيثارة بين يديّ من يحرّكها، وأن نصغي لذلك الصّوت الذي يحدّثنا في داخلنا ويعلّمنا كلّ شيء. تكفي نظرة بسيطة إلى داخلنا ترافقها حركة القلب والصّلاة. نقرأ عن أسقف قدّيس من القرن الثاني ميليتون السردي تلك الإشادة التي نرغب بأن تقال في كلّ واحدٍ منّا بعد موته: "كلّ عمل في حياته قام به بالرّوح القدس".
نختتم تأملنا بصلاة "تعال أيّها الرّوح القدس" وتحديدًا بالقسم الذي يحدّثنا عن إرشاد الرّوح القدس: "اطرد العدوّ بعيداً، واعطِ السّلامَ سريعاً. واذ تكون لنا قائداً متقدّماً، فننجو بكَ من كلِّ ضرر".
إذاعة الفاتيكان.