ألقى واعظ القصر الرّسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمّله الأوّل لزمن المجيء في كابلة أمّ الفادي في القصر الرسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّه بالقول:
قدّمت لي الذكرى الخمسين لاختتام المجمع الفاتيكانيّ المسكونيّ الثاني الفكرة لأُكرّس تأمّلات زمن المجيء للعودة إلى هذا الحدث المجمعيّ.
سنتأمّل حول بعض الوثائق الأساسيّة للمجمع والتي هي الدساتير العقائديّة الأربعة: في الكنيسة (نور الأمم)، في الليتورجيّة المقدّسة (المجمع المقدّس)، في الوحيّ الإلهيّ (كلمة الله)، في الكنيسة في عالم اليوم (فرح ورجاء).
لقد أتتني الفكرة لهذا التأمل الأوّل حول الكنيسة خلال قراءتي لنصّ الدّستور باللّغة اللاتينيّة والذي نقرأ في بدايته "Lumen gentium cum sit Christus…" أي "المسيح هو نور الأمم..." إنّه اللّقب الذي حيّا به سمعان الشّيخ المسيح الطفل الذي قدّماه يوسف ومريم إلى الهيكل: "نُورٌ يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجدٌ لِشَعبِه إِسرائيل" (لوقا 2، 32).
يظهر الرّوح والمحتوى الكريستولوجيّ للدّستور العقائدي "نور الأمم" بشكلٍ خاصّ في الفصل الأوّل الذي يقدّم الكنيسة عروسًا للمسيح وجسده، فيقول عنها:"سُميّت الكنيسة أيضًا "أورشليم العُليا" و"أمّنا"، ونُعِتت بالعروس التي لا عيب فيها للحمل الذي لا عيب فيه، التي "أحبّها المسيح وأسلم ذاته لأجلها لكي يقدّسها"، واقترن بها بعهدٍ لا ينفصم، و"يغذّيها، ويعتني بها".
وبعدما طهّرها أراد أن تتّحد به وتخضع له في "الحبّ والأمانة" (نور الأمم، عدد 6). أمّا عن جسد المسيح فيكتب: "ثمّ إنّ ابن الله افتدى الإنسان في الطّبيعة البشريّة التي اتّحد بها، بانتصاره بموته على الموت وبقيامته، وحوّله خليقةً جديدةً. وإذ أحلّ روحه على إخوته الذين دعاهم من جميع الأمم وجعلهم جسدًا سريًّا له... وإذ نشترك حقاً في جسد الرّبّ، في كسر الخبز الإفخارستيّ، نرتفع إلى الشّركة معه وفي ما بيننا. و"إذ ليس سوى خبز واحد فإنّنا جميعاً جسد واحد، نحن المشتركين في هذا الخبز الواحد" (نور الأمم، عدد 7).
الكنيسة هي جسد المسيح لأنّها عروس المسيح! بمعنى آخر، نجد في أساس الصورة البولسيّة للكنيسة جسد المسيح فكرة الإتّحاد الزوجيّ بين الرّجل والمرأة اللذين يصبحان في الزواج جسدًا واحدًا، كما ونجد أيضًا الفكرة الافخارستيّة للجسد الواحد الذي يكوّنه جميع الذين يأكلون الجسد الواحد: "فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد" (1 كور 10، 17).
وبالتالي فدون الكنيسة ودون الافخارستيّا لن يكون هناك جسد للمسيح في العالم. هناك مبدأ غالبًا ما يكرّره آباء الكنيسة ويطبّقونه: "Ecclesia vel anima" أي "الكنيسة أو النفس" بمعنى آخر أي كلّ ما يُقال عن الكنيسة عامّة يمكن تطبيقه أيضًا على كلّ فرد في الكنيسة؛ ويكتب القدّيس أمبروسيوس في هذا السّياق: "يظهر جمال الكنيسة في جمال النفوس".
ماذا يعني إذًا للمسيحيّ أن يعيش ويُحقـّق في حياته الروحيّة واقع الكنيسة جسد المسيح وعروسه؟ إذا كانت الكنيسة هي جسد المسيح، فأنا أُحقـّق الكنيسة في جسدي وأكون "كائنًا كنسيًّا" بمقدار ما أسمح للمسيح بأن يجعل منّي جسدًا له. فما يهمّ ليس المنصب الذي أشغره في الكنيسة وإنّما المكانة التي يملكها المسيح في قلبي!
يتحقـّق هذا الأمر بشكلٍ موضوعيّ من خلال الأسرار، لاسيّما من خلال سرّي المعموديّة والافخارستيّا. المعموديّة ننالها مرّة واحدة ولكن الإفخارستيّا ننالها يوميًّا، من هنا أهميّة الاحتفال بها ونوالها لكي تتمكّن من أن تجعلنا كنيسة. فالافخارستيّا تصنع الكنيسة ليس فقط على الصعيد الجماعيّ وإنّما أيضًا على الصعيد الشخصيّ، فهي تجعل من كلّ فرد منّا جسد المسيح أي الكنيسة. إنّ الافخارستيّا تجعل من حياتي وحياة المسيح واحدًا، دون التباس أو انقسام، فيتمكّن هكذا كلّ منّا بعد نواله الافخارستيّا من أن يقول مع القدّيس بولس: "فما أَنا أَحيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحيا فِيَّ" (غلا 2، 20).
إنّ صورة الكنيسة جسد المسيح ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصورة الكنيسة عروس المسيح وهذا الأمر يمكنه أن يساعدنا لنعيش الافخارستيّا بعمقها. نقرأ في الرّسالة إلى العبرانيّين أنّ الزواج البشريّ هو علامة لاتّحاد المسيح مع الكنيسة: "ولِذلِك يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرُ الاِثنانِ جَسَدًا واحِدًا. إِنَّ هذا السِّرَّ لَعَظيم، وإِنِّي أَقولُ هذا في أَمرِ المسيحِ والكَنيسة" (أفسس 5، 31-32). وبحسب القدّيس بولس إنّ نتيجة الزواج المباشرة هي أنّه يصبح للمرأة سلطة على جسد زوجها، وللرّجل سلطة على جسد زوجته (راجع 1كور 7، 4).
وعندما نُطبّق هذا الأمر على الإفخارستيّا فهذا يعني أنّ جسد الكلمة المتجسّد الذي لا يفنى والذي يُعطي الحياة يصبح لي، فيما يصبح جسدي وبشريّتي للمسيح. ففي الافخارستيّا نحن ننال جسد ودمّ المسيح، لكنّ المسيح أيضًا "يأخذ" جسدنا ودمنا؛ وفي هذا السّياق يكتب القدّيس إيلاريوس: "إنّ المسيح يأخذ جسدَ الذي يأكل جسدَه"، فهو يقول لنا: "خذوا كلوا هذا هو جسدي"، ولكن يمكننا نحن أيضًا أن نقول له: "خذ هذا جسدي"، فيصبح عندها كلّ شيء في حياتي ملكًا للمسيح.
لقد فهمت الطوباويّة أليصابات للثالوث هذا الأمر جيّدًا عندما كتبت: "العروس تنتمي لعريسها. عريسي قد امتلكني ويريدني أن أكون له بشريّة إضافيّة". كما ولو كان يسوع يقول لنا: "أنا بحاجة لك وأريد أن أعيش من خلالك لذلك ينبغي علي أن أُقيم في فكرك وعواطفك، ينبغي عليّ أن أقيم في جسدك ودمك وفي تعبك اليوميّ فأتغذّى منك كما تتغذّى منّي!"
إنّه لعزاء كبير أن تصبح بشريّتنا بشريّة المسيح ولكنّها أيضًا مسؤوليّة كبيرة؛ لأنّه إذا أصبحت عيناي عينا المسيح، وفمي فم المسيح فهذا الأمر يحملني للتنبّه لكي لا أستعمل جسدي أداةً للخطيئة، كما يقول لنا القدّيس بولس: "أَفآخُذُ أَعضاءَ المسيحِ وأَجعَلُ مِنها أَعضاءَ بَغِيّ؟" (1كور 6، 15) وهذه الكلمات تُسائل كلّ معمّد.
هناك أيضًا بُعد فرديّ ووجوديّ وهو ما يسمّيه البابا فرنسيس في الإرشاد الرسوليّ "فرح الإنجيل": اللقاء الشخصيّ مع يسوع الناصريّ إذ يكتب: "أدعو كلّ مسيحيّ، في أي مكان ووضع كان، إلى أن يُجدّد اليوم بالذات لقاءه الشخصيّ مع يسوع المسيح، أو على الأقل أن يقصد بأن يدعَ المسيحَ يلقاه وبأن يبحث عنه كلَّ يوم باستمرار. فما من أحد يملك دافعًا بأن يعتقد أنّ هذه الدّعوة ليست موجّهة إليه" (فرح الإنجيل، عدد 3).
ولكي نفهم ماذا يعني تحقيق هذا اللقاء الشخصيّ مع يسوع ينبغي علينا أن نلقي نظرة شاملة على التاريخ وكيف كان يصبح الأشخاص أعضاءً في الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى، إذ كان يتمّ من خلال تنشئة طويلة للموعوظ وثمرة قرار شخصيّ يعرِّض صاحبه للإستشهاد.
لكنّ الأمور تغيّرت بعدها وأصبحت المسيحيّة الدّيانة المفضّلة، فانتقل عندها التّشديد على عيش الإيمان وليس على اللحظة والأسلوب الذي يُصبح فيه المرء مسيحيًّا، لأنّ الأُطر الخارجيّة أيضًا كالعائلة والثقافة والمجتمع كانت تساهم في قبول وعيش الإيمان.
أمّا اليوم فهذا الوضع قد تغيّر نجد الحاجة لبشارة جديدة بالإنجيل تأخذ الوضع الجديد بالاعتبار. ويتعلّق الأمر بخلق مناسبات لإنسان اليوم تسمح له بأن يأخذ ذاك القرار الشخصيّ والحُرّ والناضج الذي كان المسيحيّون الأوائل يتّخذونه قبل نوال المعموديّة والذي كان يجعل منهم مسيحيّين حقيقيّين.
والجواب على هذه المسألة هي الحركات الكنسيّة والجماعات الراعويّة المتجدّدة التي ظهرت بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وهي تشكل الإطار والأداة التي تسمح للعديد من الأشخاص البالغين باختيار المسيح من خلال قرار شخصي فيأخذون معموديتهم على محمل الجدّ ويصبحون أشخاصًا نشيطين في حياة الكنيسة.
وختم واعظ القصر الرسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا تأمّله الأوّل لزمن المجيء بالقول ماذا يعني إذًا أن نلتقي بيسوع شخصيًّا ونسمح له بأن يلتقينا؟ يعني أن نعلن على مثال القدّيس بولس والمسيحيّين الأوّلين أن "يسوع هو الرب!" فيسوع ليس مجرّد شخصيّة وإنّما هو شخص؛ ليس شخصًا نتحدّث عنه وإنّما شخصًا يمكننا أن نتحدّث معه لأنّه قام من الموت وهو حيّ، هو حاضر ويعمل في وسطنا.
نحن لا نقبل المسيح محبّة بالكنيسة وإنّما نقبل الكنيسة محبّة بالمسيح لذلك ينبغي علينا أن نسعى لنحبّ المسيح ونجعله محبوبًا فنقدّم هكذا خدمة أفضل للكنيسة. إنّ خصوبة الكنيسة مرتبطة بمحبّتها للمسيح لذلك فالخدمة القيّمة التي يمكن لكلّ فرد منّا أن يقدّمها للكنيسة هي بأن يحبّ المسيح وينمو في العلاقة الحميمة معه.
إذاعة الفاتيكان.