ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الأول لزمن الصوم في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "الروح القدس يُدخلنا في سرِّ سيادة المسيح".
استهل الأب كانتالاميسا تأمّله بالقول:
من خلال قراءتي لصلاة الجماعة للأحد الأول من زمن الصوم تأثَّرتُ هذا العام بتفصيل صغير، إذ لا نطلب فيها من الله الآب أن يمنحنا القوّة لنقوم بأحد الأعمال التقليديّة لهذا الزمن أي الصوم والصلاة والصدقة، وإنما نطلب شيئًا واحدًا أن يجعلنا ننمو في معرفة سرّ المسيح.
وأعتقد أنه العمل الأجمل والمقبول لدى المخلص وهذا هو الهدف الذي أرغب بأن تساهم به تأملاتي لزمن الصوم هذا العام.
سنحاول أن نسلّط الضوء على الأسلوب الذي من خلاله يُدخلنا الروح القدس في ملء الحقيقة حول المسيح وسرّه الفصحي أي حول المخلّص وعمله. وانطلاقًا من عمل المسيح، بالتناغم مع زمن الصوم الليتورجي، سنسعى لتعميق الدور الذي يلعبه الروح القدس في موت المسيح وقيامته ومن بعدها في موتنا وقيامتنا.
يؤكّد القديس بولس أن يسوع يظهر "ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة"(روم 1/ 4)، وأنّه "لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: "يَسوعُ رَبٌّ" إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس"( 1كو 12/ 3)، وبالتالي هو ينسبُ إلى الروح القدس "فهم سرّ المسيح" الذي أُعطي له ولجميع القديسين والرسل والأنبياء؛ ويقول أن المؤمنين أيضًا سيتمكّنون من إدراك "ما هو العَرْضُ والطُّول والعُلُوُّ والعُمق، ويعرِفوا مَحبَّةَ المسيحِ الَّتي تَفوقُ كلَّ مَعرِفة"( أف 3/ 18). أما في إنجيل يوحنا، يعلن يسوع نفسه عمل هذا الباراقليط الذي سيَأخُذُ مِمَّا له ويُخبِرُ تلاميذه بِه، وسيذكّرهم بكل ما قاله لهم.
أما مجيء الروح القدس في العنصرة فسيُترجم كإلهام مفاجئ لعمل المسيح كلّه وشخصه، ولذلك يختتم بطرس خطابه في العنصرة بالإعلان الرسمي: "فَليَعلَم يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا".(أع 2/ 36)
وانطلاقًا من ذاك اليوم بدأت الجماعة الأولى بقراءة حياة يسوع وموته وقيامته بطريقة مختلفة. نعود إذًا إلى دور الروح القدس فيما يتعلَّق بمعرفة المسيح. يَظهر في إطار العهد الجديد نوعان من معرفة المسيح أو إطاران لعمل الروح القدس. هناك معرفة موضوعيّة للمسيح وسرّه وشخصه وهناك معرفة شخصيّة وداخليّة وتتعلّق بما يصنعه يسوع لي.
في بولس يسود الاهتمام بمعرفة ما فعله المسيح لنا ولعمل المسيح ولاسيما لسرّه الفصحي، أما في يوحنا فيسود الاهتمام لمعرفة من هو المسيح الكلمة الأزلي الذي كان لدى الله وجاء في الجسد والذي هو مع الآب واحد.
في مرحلة آباء الكنيسة وكتاباتهم يظهر الروح القدس كضمانة لتقليد الرسل حول يسوع ضدّ التجدّد الغنّوصي، وبالتالي يؤكّد القديس إيريناوس:" أن الله قد أوكل للكنيسة عطيّة الروح القدس والتي لا يشارك بها الذين ينفصلون عن الحقيقة التي تبشّر بها الكنيسة".
أما في مرحلة الجدالات العقائديّة الكبيرة كان يُنظر إلى الروح القدس كحارس للعقيدة الكريستولوجيّة الصحيحة. وفي المجامع، أكّدت الكنيسة أن الروح القدس قد ألهمها في صياغة الحقائق حول طبيعتي المسيح ووحدة شخصه وكماله في بشريّته، مع تسليط الضوء على المعرفة الموضوعيّة والعقائديّة والكنسيّة للمسيح.
أما المصلحون البروتستانت فقد قلبوا هذا الوضع رأسًا على عقب وقالوا إن معرفة المسيح تعني معرفة منافعه لا الاستقصاء حول طبيعته وأساليب التجسّد. وبالتالي تتعارض المعرفة الموضوعيّة مع المعرفة الشخصيّة والحميمة؛ ومع الشهادة الخارجيّة للكنيسة وللكتاب المقدّس حول يسوع تتعارض الشهادة الداخليّة التي يؤدّيها الروح القدس ليسوع في قلب كلِّ مؤمن.
في ختام كتابه حول تاريخ دراسة الكتاب المقدّس المسيحيّة توصّل هنري دو لوباك إلى خلاصة تشاؤميّة، فكان يقول: "تنقصنا نحن المعاصرون الشروط لنقوم بقراءة روحيّة كقراءة آباء الكنيسة، كما ينقصنا الإيمان المُفعم بالدفع وحس الكمال والوحدة للكتاب المقدّس اللذين كان الآباء يتمتعون بهما"
ويضيف "إن أردنا أن نستعيد ما كان في القرون الأولى في الكنيسة، أي الشرح الروحي للكتاب المقدّس علينا أن نخلق مجدّدًا تيّارات روحيّة". إن ما يلحظه دو لوباك حول المعرفة الروحيّة للكتاب المقدّس يمكن تطبيقه على المعرفة الروحيّة للمسيح.
وبالتالي لا يكفي أن نكتب أطروحات جديدة حول لاهوت الروح القدس إن كانت تنقصنا الخبرة المعاشة للروح القدس كتلك التي رافقت في القرن الرابع أول كتابات لاهوت الروح القدس. تنقصنا الشروط الضروريّة لنرتفع إلى المستوى الذي يعمل فيه الباراقليط: أي الدفع والشجاعة ونشوة الروح القدس التي يتحدّث عنها كبار مؤلّفي ذاك العصر.
ظهر خلال القرن الماضي تيّارًا روحيًّا قد خلق القواعد من أجل تجدّد في علم الروح القدس انطلاقًا من خبرة الروح القدس ومواهبه. وعندما دخل هذا التيار في منتصف القرن الماضي في الكنائس التقليديّة لم يتمكن اللاهوت من تجاهله؛ وفي كتاب يحمل عنوان "إعادة اكتشاف الروح القدس: خبرة ولاهوت الروح القدس" قام أشهر اللاهوتييون الكاثوليك والبروتستانت بدراسة معنى الظاهرة الخمسينيّة والمواهبيّة من أجل تجدّد في عقيدة الروح القدس.
هذه الأمور كلّها تهمّنا فقط من منظار معرفة المسيح. ما هي معرفة المسيح التي تظهر في هذا الجو الروحي واللاهوتي؟ يتحدّث القديس بولس عن معرفة أسمى للمسيح وتقوم على معرفته وإعلانه "ربًّا". إنّه الإعلان الذي، إذا اتحد بالإيمان بقيامة المسيح، يجعل من المرء مُخلَّصًا: "فإذا شَهِدتَ بِفَمِكَ أَنَّ يسوعَ رَبّ، وآمَنتَ بِقَلبِكَ أَنَّ اللّهَ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات، نِلتَ الخَلاص"،(روم 10/ 9) وهذه المعرفة ممكنة فقط بفضل الروح القدس لأنّه "لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: "يَسوعُ رَبٌّ" إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس".(1كو 12/ 3)
ماذا يميّز هذا الإعلان؟ يمكننا أن نشرح هذا الأمر من خلال وجهات نظر مختلفة موضوعيّة وشخصيّة. تقوم القوّة الموضوعيّة لجملة "يسوع هو الرب" في الواقع الذي تجعله حاضرًا في التاريخ ولاسيما في السرّ الفصحي. غنها الخلاصة التي تنبعث من حدثين: المسيح مات من أجل خطايانا وقام من أجل تبريرنا، ولذلك هو الرب. "فقَد ماتَ المَسيحُ وعادَ إِلى الحَياة لِيَكونَ رَبَّ الأَمواتِ والأَحياء". (روم 14/ 9) أما من وجهة النظر الشخصيّة – أي لما يتعلّق بنا – تقوم قوّة هذا الإعلان في واقع أنّه يتطلّب قرارًا أيضًا، لأنّ الذي يعلنه يقرّر معنى حياته. إن جانب القرار الموجود في الإعلان بأن يسوع هو الرب يتّخذ اليوم آنيّة مميّزة، وإعلان يسوع ربًّا يعني إعلان وحدته كما نقول في قانون الإيمان "نؤمن برب واحد يسوع المسيح". يكتب القديس بولس: "قد يَكونُ في السَّماءِ أَو في الأَرضِ ما يُزعَمُ أَنَّهم آِلهة، بل هُناكَ كَثيرٌ مِنَ الآلِهَة كَثيرٌ مِنَ الأَرباب، وأَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا".(1 كور 8/ 5-6)
أين تكمن القفزة النوعيّة التي يجعلنا الروح القدس نعرف المسيح من خلالها؟ تكمن في واقع أن إعلان يسوع ربًّا هو الباب الذي يُدخل إلى معرفة المسيح القائم من الموت والحي! أي المسيح كشخص وليس كمجوعة أطروحات وعقائد، ولا كموضوع عبادة ليتورجيّة أو إفخارستيّة وإنما كشخص حيٍّ وحاضر على الدوام في الروح القدس. وهذه المعرفة الروحيّة والوجوديّة ليسوع كرب لا تقودنا لتجاهل المعرفة الموضوعيّة والعقائديّة والكنسيّة للمسيح وإنما لإعادة إنعاشها، كما يكتب القديس إيريناوس بفضل الروح القدس تستعيد الحقيقة المُلهمة شبابها كوديعة ثمينة في آنية قيّمة وتُجدِّد أيضًا الآنية التي تحتويها.
إذاعة الفاتيكان.