زار قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الإثنين مقرّ برنامج الأغذية العالميّ في روما بمناسبة افتتاح الدّورة السنويَّة للمجلس التنفيذي حيث كانت في استقباله المديرة التنفيذية للبرنامج السيّدة إرتارين كوزين والمطران فرناندو شيكا أريلانو المراقب الدَّائم للكرسيّ الرَّسوليّ والسيّدة ستيفاني هوخستيتير سكينير- كليه رئيسة مجلس الإدارة للبرنامج، وبعد أن التقى الأب الأقدس بكبار موظفيّ برنامج الأغذية العالميّ توجّه إلى "حائط الذكرى" للصّلاة على نيّة الذين سقطوا خلال تأدية مهمَّاتهم؛ بعدها انتقل البابا إلى قاعة المحاضرات حيث ألقى كلمة افتتح فيها أعمال الدّورة السنويّة للمجلس التنفيذيّ لبرنامج الأغذية العالميّ.
قال البابا فرنسيس:
نعيش في عالم مترابط تطبعه الاتصالات الفوريَّة، ويبدو أنَّ المسافات الجغرافية قد تقلّصت، إذ يُمكننا أن نعرف على الفور ما يحدث في الجانب الآخر من الكوكب. بواسطة تكنولوجيا الاتصالات، نقترب من العديد من الحالات المأساويَّة، كما ويمكن أيضًا لهذه الوسائل أن تساعد، (وقد ساعدت) على تحريك تصرفات رأفة وتضامن. إن إفراط المعلومات الذي نملكه يولّد تدريجيًّا شعورًا طبيعيًّا تجاه الفقر والبؤس. أي أنّنا نصبح شيئًا فشيئًا محصّنين ضدّ مأساة الآخرين ونعتبرها أمرًا "طبيعيًّا". كثيرة هي الصُّور التي تبلغنا، فنرى الألم ولا نلمسه، نسمع البكاء ولا نعزّيه، نرى العطش ولا نرويه. بهذا الشَّكل تصبح أرواحًا كثيرة جزء من خبر يتمُّ استبداله بآخر في فترة وجيزة.
لا يمكننا اليوم أن نعتبر أنفسنا راضين لمجرّد معرفتنا بمشاكل العديد من إخوتنا، كما لا يكفي أن نقدّم تأمّلات طويلة ونغوص في نقاشات حولها مكرّرين باستمرار مواضيع يعرفها الجميع. من الأهميّة بمكان ألا نعتبر الفقر أمرًا طبيعيًّا وأن نتوقّف عن اعتباره كمجرّد إحصاء بدلاً من الواقع. لماذا؟ لأنَّ الفقر يملك وجهًا، وجه طفل ووجه عائلة، ووجه شباب ومسنّين. لا يمكننا أن نعتبر جوع العديد من الأشخاص أمرًا طبيعيًّا؛ كما لا يجوز لنا أن نعتبر وضعهم نتيجة لمصير أعمى لا يُمكننا أن نفعل شيئًا إزاءه. عندما تغيب الوجوه والقصص، تصبح الأرواح أعدادًا وهكذا شيئًا فشيئًا نخاطر بتحويل ألم الآخرين إلى أمر بيروقراطي.
عندما زرت منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتّحدة بمناسبة المؤتمر العالمي الثاني حول التغذية قلت إنَّ أحد أوجه التفاوت التي دعينا إلى النظر بها تكمن في وجود طعام كاف للجميع، "لكن لا يمكن للجميع أن يأكلوا فيما نرى أمام أعيننا الهدر والاستهلاك المفرط للطعام". إنّ نقص الغذاء ليس أمرًا طبيعيًّا كما وليس أيضًا أمرًا بديهيًّا. أن يعاني اليوم، في القرن الحادي والعشرين، العديد من الأشخاص بسبب هذه الآفة هو نتيجة لتوزيع أناني وسيِّئ للموارد. إنَّ الأرض، التي تُساء معاملتها والمُستغلّة، لا تزال تعطينا ثمارها في مختلف أنحاء العالم وتقدّم لنا أفضل ما لديها؛ إنَّ الوجوه الجائعة تذكّرنا بأنّنا لم نُحسن استخدام الغاية من وجودها. إنّ الاستهلاك - الذي يجتاح مجتمعاتنا - قد حملنا على الاعتياد على الفقر والهدر اليومي للطعام الذي لم نعد قادرين أحيانًا على إعطائه قيمته الحقيقيّة والتي تذهب أبعد من المعايير الاقتصاديّة الصرفة. وبالرّغم من ذلك سيساعدنا أن نتذكّر أنّ هدر الطعام هو كسرقته عن مائدة الفقير والجائع.
علينا أن نقول بصدق: هناك مسائل بيروقراطيَّة وهناك أعمال مُعلّبة. جميعنا نعرف عدم الثبات العالميّ الذي نعيشه، وفي الأيَّام الأخيرة تسيطر الحروب والنزاعات على اهتماماتنا ونقاشاتنا، وهكذا إزاء أنواع الصراعات الموجودة، يبدو أنّ الأسلحة قد اكتسبت نفوذًا بطريقة تجعلنا نضع جانبًا الوسائل الأخرى الكفيلة بحلّ مسببات الصراع. إن هذا التفضيل هو متجذّر ومقبول لدرجة أنّه يمنع توزيع الغذاء في مناطق الحرب، وصولاً إلى انتهاك المبادئ والتوجيهات الأساسيّة للقانون الدوليّ والتي دخلت حيّز التنفيذ لعقود خلت.
في بعض الحالات يُستعمل الجوع نفسه كسلاح حرب؛ وتتزايد الضحايا لأنَّ عدد الأشخاص الذين يموتون من الجوع والإرهاق يُضاف إلى عدد المحاربين الذين يموتون على أرض المعركة وعدد العديد من المدنيِّين الذين يموتون في النزاعات والاعتداءات. نحن ندرك هذا الأمر تمامًا ولكنّنا نسمح لضمائرنا بأن تتخدّر، وبهذا الشكل تصبح القوَّة أسلوب التصرّف الوحيد والسُّلطة الهدف الواجب بلوغه. لذلك من الأهميّة بمكان أن نزيل البيروقراطيَّة التي تمنع خطط المساعدات الإنسانيّة من تحقيق أهدافها. وفي هذا الأمر أنتم تملكون دورًا أساسيًّا لأنّنا بحاجة لأبطال حقيقيّين قادرين على فتح دروب ومدّ جسور وتبسيط الإجراءات التي تسلّط الضَّوء على وجه من يتألّم.
إنَّ الأمر لا يتعلّق بمعادلة المصالح التي تبقى متعلّقة برؤى وطنيّة، وإنّما بأن تزيد الدول الأعضاء وبشكل قاطع رغبتها الحقيقيّة في التعاون من أجل هذه الأهداف. لهذا السبب كم سيكون مهمًّا أن تسمح الإرادة السياسيّة لجميع البلدان الأعضاء بالتعاون الفعليّ وتعزيزه بالتعاون مع برنامج الأغذية العالميّ لكي لا يجيب على حالات الطوارئ وحسب وإنّما كي يحقـِّق أيضًا مشاريع ثابتة ويعزِّز برامج تنمية طويلة الأمد. إنَّ برنامج الأغذية العالمي بمسيرته ونشاطه يُظهر أنَّه يمكن أن تُنظّم المعرفة العلميّة والقرارات التقنيَّة والأعمال الملموسة مع الجهود الموجّهة لجمع الموارد وتوزيعها بإنصاف أي باحترام متطلبات الذين ينالونها ورغبة من يعطي. بمعنى آخر إن برنامج الأغذية العالمي هو مثال فعّال حول طريقة العمل في العالم كلّه من أجل اقتلاع الجوع من خلال رصد أفضل للموارد الإنسانيّة والماديّة، من خلال تعزيز الجماعة المحليّة. ولذلك أُشجّعكم على المضي قدمًا.
إنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة، الأمينة لرسالتها، ترغب بالعمل بشكلٍ ملموس في جميع المبادرات التي تكافح من أجل الحفاظ على كرامة الأشخاص لاسيَّما أولئك المجروحين في حقوقهم. ولكي تتحقـَّق هذه الأولويّة الملحّة: "تقليص الجوع إلى الصفر"، أؤكّد لكم دعمنا من أجل جميع الجهود المُتّخذة. "لأنِّي كُنتُ جائِعاً فَأطعَمْتُمُونِي، وكُنْتُ عَطشاناً فَسَقَيتُمُونِي" بهذه الكلمات يوجد أحد مبادئ المسيحيَّة. عبارة يمكنها، بغض النظر عن الطوائف الدينيَّة والقناعات، أن تشكّل قاعدة ذهبيّة لجميع شعوبنا. ففي قدرتنا على إطعام الجائع وإرواء العطشان يُقاس نبض إنسانيّتنا. لذلك أتمنى أن يُسائلنا على الدّوام الكفاح من أجل اقتلاع جوع وعطش إخوتنا لكي نبحث بشكلٍ خلّاق عن حلول تغيير وتحوّل.
إذاعة الفاتيكان.