بمناسبة اختتام أعمال الجمعيّة العامّة للجنة الحبريّة لأمريكا اللاتينيّة والتي عُقدت في الفاتيكان من الأوّل حتّى الرَّابع من آذار مارس الماضي تحت عنوان "الإلتزام الجوهريّ للعلمانيِّين في الحياة العامّة" وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة إلى الكاردينال مارك أوليه رئيس اللّجنة الحبريّة لأمريكا اللاتينيّة كتب فيها:
بالنّظر إلى شعب الله المقدّس والأمين نحن ننظر إلى الأفق الذي دُعينا للتأمّل به، فنحن مدعوّون باستمرار كرعاة للنظر إلى شعب الله المقدّس والأمين وحمايته ومرافقته وخدمته. لا وجود للرّاعي بدون قطيع ليخدمه، لأنّ الرّاعي يرعى شعبًا معيّنًا وخدمة الشّعب تتـمُّ من الدّاخل.
إنّ النّظر إلى شعب الله المقدّس والأمين والشّعور بأنّنا جزء منه يعطينا منصبًا في الحياة، لأنَّ النظر إلى شعب الله يخلّصنا من الشِّعارات التي لا تعضد حياة جماعاتنا، ويذكّرنا بأنّنا جميعًا ندخل إلى الكنيسة كعلمانيِّين.
فالسرّ الأوّل الذي يختم هويّتنا للأبد والذي ينبغي علينا أن نفتخر به هو سرّ المعموديّة. من خلال هذا السرّ وبمسحة الرّوح القدس: "يتكرّس (المؤمنون) لكي يكونوا مسكناً روحيّاً وكهنوتاً مقدّساً" (نور الأمم، عدد 10).
ونحن، كما يؤكّد المجمع الفاتيكانيّ الثاني، شعب الله الذي تكمن هويته في "كرامة وحريّة أبناء الله، الذين يسكن الرّوح القدّس في قلوبهم كسكناه في هيكل" (نور الأمم، عدد 9). فشعب الله المقدّس والأمين ممسوح بنعمة الرّوح القدس ولذلك ينبغي علينا أن نتنبّه لهذه المسحة على الدّوام عندما نتأمّل ونفكّر ونميّز.
هناك ظاهرة مهمّة جدًّا قد حصلت في أمريكا اللاتينيّة وهي الراعويّة الشعبيّة، إنّها إحدى الفسحات القليلة التي من خلالها تمكّن الشّعب من اللّقاء بالرّوح القدس بعيدًا عن نفوذ رجال الدّين الذي يسعى للسيطرة على مسحة الله لأبنائه وإيقافها. نعلم جيّدًا أنّ الراعويّة الشَّعبيَّة، كما كتب البابا بولس السَّادس في الإرشاد الرسوليّ "إعلان الإنجيل"، لها حدودها بالتأكيد.
وكثيراً ما تكون عرضة لتطرق العديد من الإنحرافات الدينيّة ولكن متى كانت هذه التقوى موجهّةً توجيهًا سليمًا، وخاصّة بفضل إتّباع فنّ تربويّ للبشارة، فإنّها تصبح غنية ً بالقيم. فتُترجم نوعًا من التعطش إلى الله لا يحسّ به سوى البُسطاء والفقراء وحدهم.
فهو يجعل الإنسان مستعدًا للبذل بسخاء وبتضحية، يصل إلى حدِّ البطولة، عندما يكون بصدد إظهار إيمانه. ويقوم على مفهوم دقيق حاد لصفات الله العميقة: الأبوّة، والعناية الإلهيّة، وحضوره معنا المطبوع على المحبّة والدوام. فهو يولّد إستعدادات داخلية قلّما تتوفر بدونه على نفس الدّرجة: الصبر، روح تحمل الصّليب في الحياة اليوميّة، التجرّد، التفتح للآخرين، الإخلاص في التعبد.
ومن أجل هذه النواحي نطلق عليه بكلّ ارتياح لفظ "التقوى الشعبيّة"... فإذا وجّهت هذه التقوى الشعبيّة توجيهًا صحيحًا، أمكنها أن توفر أكثر فأكثر لجماعاتنا الشّعبية لقاءً صحيحًا مع الله في يسوع المسيح" (إعلان الإنجيل، عدد 48).
لقد أخذت مثل الراعويّة الشعبيّة هذا كمفتاح ليساعدنا على فهم العمل الذي يتمُّ عندما يصلّي شعب الله المقدّس والأمين ويعمل. إنّه عمل لا يبقى فقط على المستوى الشخصيّ بل يتحوّل إلى ثقافة، ثقافة شعبيّة مُبشَّرة تحتوي على قيم الإيمان والتضامن التي بإمكانها أن تُساهم في نموِّ مجتمع أكثر عدلاً وإيمانًا.
في يومنا هذا، أصبحت العديد من المدن أماكن تُقيم فيها ثقافة الإقصاء التي تترك مكانًا صغيرًا للرّجاء. وهناك نجد إخوتنا الغائصين في هذا الكفاح مع عائلاتهم، وسط تناقضات وظلم، وهم يسعون ليس للبقاء على قيد الحياة وحسب وإنّما يبحثون عن الرّبّ أيضًا ويريدون أن يقدّموا له شهادة من خلال حياتهم.
فماذا يعني بالنسبة لنا نحن الرّعاة بأن العلمانيِّين يعملون في الحياة العامّة؟ يعني أن نجد الأساليب لنشجّعهم ونرافقهم في جهودهم ليحافظوا على شعلة الرّجاء والإيمان متّقدة في عالم مليء بالتناقضات. يعني أيضًا أن نلتزم كرعاة وسط شعبنا ومعه ونعضد إيمانه ورجاءه فنفتح الأبواب ونعمل معه ونحلم معه ونصلّي معه.
لقد سقطنا مرّات عديدة في تجربة التفكير أنّ العلماني المُلتزم هو فقط الشّخص الذي يعمل في الكنيسة ومؤسَّساتها وفكّرنا قليلاً حول كيفيّة مرافقة معمّد في الحياة العامّة واليوميّة وحول كيفيّة التزامه كمسيحيّ في عيش مسؤولياته في الحياة العامّة.
لذلك ينبغي علينا أن نعترف أنّ العلماني بهويّته يحتاج لأشكال تنظيم واحتفالات جديدة للإيمان، لأنّ إيقاع الحياة اليوم يختلف عن إيقاعها لثلاثين سنة خلت وهذا الأمر يتطلّب منّا أن نخلق فسحات صلاة وشركة ذات ميزات متجدِّدة وجذابة تُهمُّ سكان المدن.
من غير المنطقيّ ومن المستحيل أن نفكِّر أنّه يجب علينا كرُعاة أن نحتكر الحلول للتحديات العديدة التي تواجهها الحياة المُعاصرة. لا يمكننا أن نقدِّم إرشادات عامَّة لتنظيم حياة شعب الله داخل حياته العامّة. وبالتالي نحن مدعوّون كرعاة لنحثَّ على الإنثقاف من خلال تشجيع المؤمنين على عيش إيمانهم حيث هم؛ فالإنثقاف هو تعلّم كيف يعيش جزء من شعب الله إيمانه اليوم في هذه المرحلة من التاريخ وكيف يحتفل به ويعلنه، من خلال هوية مميّزة وعلى أساس المشاكل التي ينبغي عليه أن يواجهها.
يُطلب منّا أن نحافظ في حياة شعبنا على ذكرى يسوع المسيح وذكرى أجدادنا. فالإيمان، قد نلناه، وفي غالبيّة الأحيان كان عطيّة من يدي أمهاتنا وجدّاتنا، لقد كُنَّ ذكرى يسوع المسيح الحيّة داخل بيوتنا، وفي صمت الحياة العائليّة تعلّم معظمنا كيف يحبّ ويصلّي ويعيش إيمانه.
وهذا الإيمان البسيط قد رافقنا في مختلف تقلّبات مسيرتنا. وبالتالي عندما نقتلع علمانيًّا من إيمانه ممّا هي أصوله نقتلعه من شعب الله ومن هويّته التي نالها في المعموديّة ونحرمه من نعمة الرّوح القدس؛ وهذا ما يحصل لنا عندما كرعاة نقتلع أنفسنا من شعبنا فنفقد هويتنا.
إنّ دورنا وفرحنا يكمنا في المساعدة والتشجيع على مثال الكثيرين الذين سبقونا، أمّهات وجدّات وآباء، رواد التاريخ الحقيقيِّين. لتشفع العذراء المقدّسة بكم ولتحفظكم وترافقكم على الدّوام!
إذاعة الفاتيكان.