في زمن العنصرة، الذي هو زمن الكنيسة بتوجيهات الربّ يسوع وبقيادة الرّوح القدس، نتأمّل اليوم بالإرسال الإلهيّ الذي يشمل الكنيسة بكلّ أبنائها وبناتها ومؤسّساتها. الرّسالة صعبة وتواجه المحن والمضايقات والرّفض والاضطهاد. لكنّها في الوقت عينه مصانة ومحصَّنة بكلمة الإنجيل وإيحاءات الرّوح القدس. وتقتضي من حاملي هذه الرسالة الحكمة والوداعة والصبر، على مثال المسيح الرَّسول الأوّل بامتياز.
1. يشبِّه الربّ يسوع إرسال تلاميذه المسيحيّين إلى العالم، بإرسال الخراف بين الذئاب (متى 10: 16-25). في برّية هذا العالم يجب إعداد طريق الربّ الخلاصيّ، وجعل سبله مستقيمة (نبوءة أشعيا عن يوحنا المعمدان: مر1: 2-3). لكنّ الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر. ففيه الاعتداءات كاعتداء الذِّئب على الخراف، ويحدّدها الرّبّ يسوع في النصّ الإنجيليّ: تسليم حاملي الرِّسالة إلى المجالس، وجلدهم في المجامع، وسوقهم إلى الولاة والحكم بسبب اسم يسوع، البغض من الجميع، والاضطهاد والهرب إلى مكان أخر آمن. وبسبب الإيمان والشّهادة للمسيح: الأخ يسلّم أخاه للموت، والأبُ ابنَه، ويتمرّد الأولاد على والديهم ويقتلونهم.
2. الرِّسالة المسيحيّة صعبة واستشهاد نفسيّ وروحيّ ومعنويّ ودمويّ: يصارح الربّ يسوع المؤمنين به بهذه الحقيقة الصّعبة. فما هي فرص نجاة الحَمَل من الذئب؟ نذكر هنا كلّ المرسلين والمرسلات الذين جابوا العالم ناشرين الإنجيل، وشاهدين للمسيح ولمحبّته لجميع الناس، وتحمّلوا الاضطهاد والمصاعب والقتل.
يستعمل الربّ يسوع صورة "الحَمَل والذئب"، لا لأنّ الحمل يعني الضعف والخنوع، بل لأنّ المسيح هو راعي الخراف، الذي يقودها إلى المراعي الخصبة ويحميها من الذئاب. الحَمَل هو المؤمن والمؤمنة الذي يغتذي من كلام المسيح، ومن جسده ودمه. والحمل مميَّز بوداعته. فالمؤمن لا يستكبر بل يتواضع ويحتمل، ويجتذب الناس إليه وإلى المسيح بوداعته، لا بقوّته وبطشه. والحمل هو رمز السّلام، لا يخيف ولا يعتدي. المؤمنون هم الذين يبنون ملكوت الله: ملكوت المحبّة والتآخي والسَّلام.
أمّا الذئب فيرمز إلى الأشخاص الذين يعتدون على غيرهم، من غير وجه حقّ، ويرتكبون الشّر مجّانًا. وبالتالي الذئب يخيف ويُبعد الناس وينفّرهم. بالعنف والاعتداء لا نجتذب أحدًا إلى المسيح.
3. يبيّن لنا يسوع الموقف الذي يجب أن نتحلّى به، وهو حكمة الحيّات ووداعة الحمام. حكمة الحيّات تعني الانتباه واليقظة وفطنة التصرّف التي تتيح لله أن يقودنا في الطريق ويلهمنا ويوجّهنا. الحكمة تعني حسن استعمال العقل والخبرة والبحث عن الحلول. فالعقل عطيّة من الله. حكمة الحيّة تجعلها تحمي رأسها، وتحفر لها مخرجَين تحت الأرض، حتى إذا هوجمت في أحدهما استطاعت الهروب إلى الآخر. الحكمة لا تستغني عن عمل الله، بل تستدعي منّا الصّلاة لالتماسه فهو يلهمنا، يلهم عقلنا الواعي والمدرك واليقظ على حسن التصرف، كما يقول في هذا النصّ: "حين يسلّمونكم، لا تهتمّوا كيف أو بماذا تتكلّمون. فإنّكم ستُعطَون في تلك السّاعة ما تتكلّمون به. فلستُم أنتم المتكلّمين، بل روح أبيكم هو المتكلّم فيكم" (الآيتان 19 و20).
4. الموقف الثاني هو الوداعة كالحمام، أي روح السّلام لا الاستسلام. الحمامة تنسحب بهدوء عندما يحاول أحدٌ الاعتداء عليها. تطير وتبتعد عن المعتدي. تتجنّب الشّر. هذه حال المؤمنين الودعاء المسالمين السلاميّين. وهم بذلك يليّنون ذوي القلوب المتحجّرة، ولا بدّ من تغييرها بهذا المسلك. وسيقول الربّ يسوع في هذا المعنى، في النصّ الإنجيليّ عينه: "إذا اضطهدوكم في هذه المدينة، اهربوا إلى غيرها" (الآية 23).
ينطبق كلام الربّ هذا على الحكمة والوداعة معًا، لأنّ المؤمن والمؤمنة لا يسقطان في حالة اليأس والقنوط عند الفشل، بل ينطلقان إلى فرصة أخرى، أمانةً لنشر كلام الله، كالزارع الذي يزرع، والله الذي ينمّي؛ ولأنّ الإيمان المسيحيّ وقبول سرّ المسيح لا يُفرضان فرضًا وبالقوّة، بل ينبعان من داخل الإنسان، مثل الأرض الطيّبة التي تتقبّل حبّة القمح، وتعطي الواحدة ثلاثين وستّين ومئة.
6. المصاعب والمحن والاعتداءات والاضطهادات المذكورة في هذا النصّ الإنجيليّ، إنّما هي من أجل اسم الربّ: "ويبغضُكم جميع النّاس من أجل اسمي" (الآية 22). الرّفض ليس للمرسلين والمرسلات، بمعنى الأشخاص الذين ينشرون في العالم ثقافة الإنجيل، ويشهدون لمحبّة المسيح، بل الرّفض من خلالهم للمسيح الذي باسمه يتكلّمون ويعملون. عندما كان شاول يضطهد أتباع يسوع ويسوقهم أمام المجالس والولاة، تراءى له الربّ على طريق دمشق. فوقع على الأرض وسمع صوتًا يقول له: "شاول، شاول، لماذا تضطهدُني؟ فقال له شاول: "مَن أنت، يا ربّ؟" فأجابه الصوت: "أنا يسوع الذي انت تضطهده! صعبٌ عليك أن تقاومني" (أعمال 9: 1-19).
7. إنّ نصرة هؤلاء المؤمنين إنّما تأتي من المسيح، إذا ظلّوا أمناءَ لرسالتهم وصامدين. ولهذا يضيف يسوع: "مَن يصبر إلى المنتهى يخلص" ويؤكّد حضوره في الوقت المناسب، وعمله من أجل نجاح الرّسالة، بالرّغم من كلّ المصاعب: "لن تبلغوا آخر مدن إسرائيل، حتى يأتي ابن الإنسان" (الآية 23).
8. ويُنهي يسوع كلامه بالدّعوة للسَّير على خُطاه، فقد جعلَ ذاته قدوةً، ونال الرّفض والإضطهاد والموت على الصّليب. لكنّه قام من بين الأموات وانتصر. "على التّلميذ أن يكون مثل معلّمه، والخادم مثل سيّده (الآية 25). فإن سلك مثله طريق الإضطهاد والألم، إنتصر معه بالقيامة.
* * *
ثانياً: جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة يالشّبيبة.
يعقد سينودس الأساقفة برئاسة قداسة البابا فرنسيس جمعيّة عموميّة خاصّة بالشّبيبة، في تشرين الأوّل 2018، بموضوع: "الشبيبة والإيمان وتمييز الدّعوة"، نحن اليوم في مرحلة المشاورات على أساس وثيقة "الخطوط العريضة". إنّنا نُنهي، في هذه التّنشئة الفقرتَين الأخيرتَين من الفصل الثاني، وموضوعه: تمييز الدّعوة. وهما: مسار الدّعوة والمرافقة.
1- مسار الدّعوة والرّسالة (Mission)
إنّ تمييز الدّعوة لا يتمّ بفعلٍ واحدٍ محدَّد، ولو وجدنا في كلّ دعوة أوقات ومحطّات تقريريّة. فتمييز دعوة، ككلّ أمر مهمّ في الحياة، هو طويل عبر الزمن، وينبغي فيه مواصلة الإنتباه لتوجيهات الربّ، بكلامه وإيحاءاته، والأحداث اليوميّة والإختبارات الشخصيّة. فلنفكّر بدعوة إبراهيم وساره وسيرهما في المجهول: "أُتركْ أرضك وعشيرتك، واذهب إلى البلاد التي سأدلّك عليها" (تك12: 1)؛ وبدعوة مريم العذراء التي راحت تدرك دعوتها ورسالتها شيئًا فشيئًا بالإيمان والرّجاء، وهي تحفظ في قلبها الكلمات والأحداث، وتتأمّل فيها من دون أن تفهمها (راجع لو2: 50-51).
لا يوجد دعوة من دون رسالة تُقبَل بمخافة وحماس. فالدّعوة هي من أجل رسالة معيّنة. قبولها يقتضي الجهوزيّة للمغامرة بما فيها السّير على طريق الصّليب، على خُطى يسوع. الأمر الذي يقتضي الخروج من الذات (Kenosis)، والإنفتاح على مساحات الله لقبول مشروعه في الحياة الزوجيّة والعائليّة، وفي خدمة الكهنوت، وفي الحياة المكرَّسة بعيدًا عن ذهنيّة الفردانيّة والإستهلاكيّة، لئلّا تصبح الدّعوة بحثًا عن الذّات ومصالحها الخاصّة، فيما المطلوب منطق هبة الذات بسخاء.
2- المرافقة
تأتي المرافقة الشخصيّة لتساعد على تمييز نداء الربّ إلى فرح الحبّ والإختيار وإعطاء جواب. وذلك من خلال ثلاث قناعات هي في أساس تمييز الدّعوة.
القناعة الأولى هي أنّ روح الله يعمل في قلب كلّ رجل وامرأة من خلال المشاعر والرّغبات والأفكار والصور والمشاريع.
القناعة الثانية هي أنّ قلب الإنسان منقسم عادةً بين رغائب متناقضة بسبب الخطيئة وسرعة عطبه.
والقناعة الثالثة هي أنّ مسار الحياة مهما كانت الأوضاع، يقتضي قرارًا إذ لا يمكن البقاء في حالة التّردّد.
من أجل المرافقة الشخصيّة للوصول إلى القرار، لا يكفي أن ندرس نظريّة التّمييز بل يجب تبنّي اختبار حركات قلب الشّخص من أجل معرفة عمل الرُّوح الذي يخاطب فرادة كلّ شخص. المطلوب تعزيز العلاقة بين الشّخص والربّ، والتعاون على إزالة ما يُعيقها.
الفرق بين المرافِق الرُّوحي والعالِم النفساني، هو أنّ الأوّل يوجّه الشّخص إلى الله، ويهيِّئ مجال اللّقاء معه، كما فعل يوحنّا المعمدان بالنسبة إلى يسوع (يو3: 29- 30). أمّا الثاني فيُساند الشّخص في صعوباته، ويساعده على إدراك نواقصه وقدراته.
نجد في الإنجيل نصوصًا تخبر عن لقاء يسوع مع الأشخاص، وتُلقي الضّوء على ما يجب أن يتّصف به وجه المرافِق الروحيّ لشابّ أو صبيّة في تمييز دعوته أو دعوتها.
* * *
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع، لقد أرسلت الكنيسة، بكلّ أبنائها وبناتها ومؤسّساتها، من جيلٍ إلى جيل، لتحمل إنجيلك الخلاصيّ إلى جميع الأمم والشّعوب، وتشهد لك وتعمل باسمك. سلّحنا نحن المؤمنين بك، الحاملين رسالتك الإلهيّة، بالحكمة والوداعة والصّبر، لكي نصمد في الرَّجاء بوجه المحن والصعوبات والرَّفض والإضطهادات، حتّى تبلغ الرِّسالة أهدافها، فيعرف جميع الناس الحقيقة وينالوا الخلاص. ساعدْ يا ربّ، كلّ شابّ وشابّة، على تمييز دعوته ودعوتها في الحياة، والرِّسالة المنوطة بهذه الدّعوة. وأنرْ المرافقين الروحيّين بالحكمة والفهم ليساندوا في اتّخاذ القرارات على ضوء هذا التّمييز. وإنّا نرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
التنشئة المسيحية - موقع بكركي.