في زمن الصليب، وهو زمن النهاية، إنجيل هذا الأحد يتكلّم عن الموت كساعة تأدية الحساب عمّا أوكل الله إلى كلّ واحد منّا من مسؤولية، بحيث مطلوب منه أن يكون "الوكيل الأمين الحكيم" (متى 24: 45). الحياة بكلّ حالة من حالاتها وكالة ومسؤوليّة. فلا يحقّ لأحد العبث بها.
1. حياة الإنسان على وجه الأرض تحمل مسؤوليّة تتنوّع في طبيعتها، وفي الأعمار والحالات. في مَثَل فعلة الكرم (متى 20: 1-16)، يرسل صاحب الكرم فعلة للعمل فيه على دفعات: في الصباح الباكر، وفي الساعة الثالثة، وفي الساعة السادسة والتاسعة والحادية عشر. طبّق القدّيس غريغوريوس الكبير هذه الساعات الخمس على أعمار الإنسان الخمسة: الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة والشيخوخة.
الكرم هو العالم الذي يضمّ الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة. الفعلة المرسلون للعمل فيه هم جميع الناس وفقًا لأعمارهم. العمل هو كلّ واجب ومسؤولية ومهمّة وسلطة، فيما العمل المشترك هو بناء ملكوت الله، لكون الإنسان، كلّ إنسان، شريك الله في هذا البناء (راجع الإرشاد الرسولي للبابا القديس يوحنا بولس الثاني: العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، الفصل الرابع).
2. الموت عنصرٌ أساسي من زمن النهايات، وهو نهاية حياة كلّ إنسان على وجه الأرض. فهو عليها عابر سبيل، مسؤول إنسانيًّا عن بناء عائلته ومجتمعه ووطنه، وروحيًّا عن بناء ملكوت الله من خلال حياة الكنيسة ورسالتها. عندما تنتهي الأزمنة والعالم المخلوق وجميع الكائنات، الكلّ يعود إلى العدم الذي منه خُلق، أي إلى اللاوجود، ما عدا الإنسان لأنّه مخلوق ذو نفس خالدة، ليكون شريك الله في حياته الإلهيّة وسعادة السماء.
الموت هو حضورٌ أمام الله، وتتمّ فيه تأدية الحساب عن وكالة الحياة ومسؤولياتها. هذه الحقيقة بكلّ أبعادها يبيّنها لنا الربّ يسوع في هذا المَثَل الإنجيلي البليغ.
3. الوكيل هو كلّ إنسان صاحب مسؤوليّة ما، كبيرةً كانت أم صغيرة، سواء في العائلة أم في الكنيسة، في المجتمع أم في الدولة. وتوجد مسؤوليّة مشتركة هي الحياة المعطاة لكلّ واحد وواحدة منّا. فهي هبة من الله، مخلوقة على صورة الله ومثاله، وتوجب علينا المحافظة عليها، عندنا وعند غيرنا، بكلّ بهائها، من خلال الاتّحاد الدائم بالله، بالصلاة وأفعال العبادة وممارسة الأسرار، وبالتنشئة الروحيّة. هذه الحياة تُحترَم في كرامتها وقدسيَّتها، وتُنمَّى، ويُحافَظ عليها. وليس لأيّ شخص حقّ الاعتداء عليها، فهي خاصّة الله سيِّدها. إنّه وحده سيّد الحياة والموت.
4. يُطلب من الوكيل أن يتحلّى بميزتَين: الأمانة والحكمة. أمّا الأمانة فهي لثلاثة: لله، وللأشخاص المولَّى عليهم، وللواجب الموكول إليه. الحكمة هي فطنة التصرّف بدون نقص وعيب مقصودَين. وهي من مواهب الروح القدس وتعني النظر إلى الأمور وتعاطيها من منظار الله. وتتّصل الحكمة بموهبة أخرى من مواهب الروح، هي مخافة الله. ولذا "رأسُ الحكمة مخافةُ الله" (مز 111: 10). ما يعني أنّ ممارسة المسؤوليّة بحكمة إنّما تبغي أساسًا مرضاة الله ومخافته في عباده.
5. عندما نقول "وكيل" يستتبع ذلك حتمًا وجود موكِّل يكلّف الوكيل بمهمّة محدّدة، عليه أن يقوم بها ويؤدّي حسابًا عنها. هذه "المهمّة" مشبَّهة "بإعطاء الطعام في حينه لأهل بيت الموكِّل" (الآية 45). ما يعني أنّ السلطة والمسؤوليّة وُجدتا لتأمين خير الجماعة، المعروف بالخير العام، الذي هو خير الجميع وخير كلّ واحد. هذا الخير هو مبرِّر وجود السلطة وكلّ مسؤولية.
في العائلة السيِّد الموكِّل هو الله وشريعته، لكونه هو مؤسِّس الزواج لخير الزوجَين والأولاد. والوكلاء هم الأزواج والوالدون. في الكنيسة، الموكِّل هو المسيح الربّ، مؤسّسها ورئيسها غير المنظور والفاعل من خلال الرؤساء الكنسيِّين، الذين يتمّ انتخابهم أو تعيينهم وفقًا لقوانين الكنيسة. في المجتمع والدولة الموكِّل هو الشعب عبر البرلمان والسلطة الإجرائية. عندما نقول "وكيل" و"موكِّل" نقول أيضًا "مساءلة ومحاسبة".
6. يجب ألّا ينسى الوكيل وجود الموكِّل. فهو لا يمارس مهامّه وصلاحياته باسمه الشخصي، بل باسم موكِّله. ولذا، يوجد ثواب وعقاب. عندما يعمل الوكيل باسم موكِّله وبالإخلاص له، ينال ثواب الخلاص، ساعة موته. أمّا إذا ظنّ أنّه هو في آن الوكيل والموكّل، فيسيء استعمال مسؤولياته، يكون نصيبه عقاب الهلاك الأبدي. هاتان الحقيقتان شبَّههما الربّ يسوع "بالوكيل الصالح" الذي، عندما يأتي سيّده ويجده ملتزمًا بواجب مسؤوليّته، يقيمه وكيلًا على كلّ ما يملك؛ "والوكيل الشِّرير" الذي يأكل ويشرب مع السكِّيرين، ويضرب رفاقه. هذا عندما يأتي سيّده ينزل فيه شرّ العقاب.
7. الثواب والعقاب يرمزان إلى دينونة كلّ إنسان التي تنتهي بالخلاص الأبدي للوكيل الأمين الحكيم، وبالهلاك الأبدي للوكيل الشّرير الذي لم يحفظ الأمانة، ولم يتصرّف بالحكمة والفطنة.
الأمانة فضيلة أساسيّة في الحياة، وهي صفة المسؤول المحبّ. مَن يحبّ حقًّا يحفظ الأمانة، ومَن لا يحبّ من كلِّ قلبه يخون. والأمانة تقتضي العودة باستمرار إلى قرار اليوم ألأوّل. هذه العودة تعطي المناعة والقوّة بوجه المصاعب والتجارب والمحن.
والحكمة هي أيضًا فضيلة أساسيّة، وصفة مطلوبة في كلّ مسؤول، لأنّها تساعده على التصرّف من دون لوم، وعلى نيل ثقة مَن قلَّده المسؤوليّة.
سنُدان على الأمانة والحكمة في مساء الحياة.
التنشئة المسيحية - موقع بكركي.