يُسعدني أن أفتتح معكم المؤتمر البيبليّ الخامس عشر، وموضوعه: "الرّسالتان الأولى والثانية إلى أهل كورنتس". فبالأصالة عن نفسي وبإسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان أحيّيكم جميعًا. وأرحّب بنيافة الكاردينال Louis Antonio TAGLE، رئيس الرّابطة الكتابيّة الكاثوليكيّة، وأمينها العام الأب يان ستيفانوف وجميع المحاضرين والمشاركين. وأوجّه باسمكم تحيّة شكر للأب بيار نجم، منسّق الرّابطة الكتابيّة في الشّرق الأوسط ومعاونيه في إعداد هذا المؤتمر وتنظيمه، مقدّرين ما بذلوا من جهود وتضحيات لهذه الغاية.
ونُعرب عن شكرنا لرئيس جامعة سيّدة اللويزه على استضافة هذا المؤتمر الذي نرجو له النّجاح في البلوغ إلى أهدافه.
2. يندرج المؤتمر في إطار نشاطات الرّابطة الكتابيّة في الشّرق الأوسط التي تشمل مؤتمرات ومحاضرات وندوات وحلقات إذاعيّة وتلفزيونيّة، من أجل نشر كلمة الله بشكلٍ واضح ومبسّط، وخلق ثقافة بيبليّة يحتاج إليها كلّ مؤمن ومؤمنة والجماعة المسيحيّة.
فالكنيسة، بأعضائها ومؤسّساتها، "مؤسّسة على كلمة الله، منها تولد وتعيش. وفيها وجد شعب الله دائمًا قوّته، طوال تاريخه. واليوم تنمو الجماعة الكنسيّة في الإصغاء إلى كلمة الله والإحتفال بها ودرسها" (الإرشاد الرّسولي للبابا بندكتوس السادس عشر "كلمة الرّبّ" الفقرة 3). وهذا ما يفعله بنوعٍ خاصّ قداسة البابا فرنسيس في العظات التي يُلقيها كلّ صباح في قدّاس السّاعة السّابعة، وتُنشَر خبزًا روحيًّا يوميًّا للمؤمنين.
3. ويُبيّن الإرشاد الرّسولي "كلمة الربّ" الحاجة إلى كلمة الله من أجل الإلتزام في المجتمع في توطيد العدالة وتعزيز المصالحة وبناء السّلام بين الشّعوب. ويُبيّن حاجة الشّباب الطّالع ليهتدي بنورها، وحاجة المهاجرين والمهجّرين المقتلعين من أرضهم وبيوتهم وأوطانهم إلى التعزية والقوّة على الصّبر والرّجاء في واقعهم المؤلم. وإلى كلمة الله يحتاج المرضى والمتألّمون والفقراء المهمّشون، لكي يلقوا عزاءهم ويُدركوا مع بولس الرّسول أنّهم "يتمّون في أجسادهم ما نقص من آلام المسيح من أجل جسده، الذي هو الكنيسة" (كول1: 24). ونحن نعلم أنّ المحبّة الفاعلة في الكنيسة والمجتمع وحماية الخليقة إنّما تنبثق من كلمة الله (راجع الإرشاد الرسولي "كلمة الرّب"، الفقرات 99-108).
4. كلمة الله إيّاها هي التي ولّدت الحميّة عند بولس الرّسول، فحمل بُشرى الإنجيل وقضيّته إلى الأمم بشجاعة وقوّة وصبر، يذكّرنا بها في رسالته الثانية إلى أهل كورنتس، كي نتمثّل به في الظروف الصعبة للغاية التي يعيشها الشّرق الأوسط، وكي نُدرك الحاجة اليوم أكثر من أيّ يوم مضى إلى نور إنجيل المسيح.
إنّنا وشعبنا الشَّرق أوسطي نصغي، من أجل هذه الغاية، لشهادة بولس الرّسول في رسالته الثانية حيث يخبر عن الآلام التي تحمّلها من أجل إنجيل المسيح: "أفوقُهم في المتاعب، أَفوقُهُم في دُخولِ السُّجون، أَفوُقهُم كَثيرًا جِدًّا في تَحَمُّلِ الجَلْد، في التَّعرُّضِ لأَخطارِ المَوتِ مِرارًا. جَلَدَني اليَهودُ خَمسَ مَرَّاتٍ أَربَعينَ جَلْدَةً إِلاَّ واحِدة، ضُرِبتُ بِالعِصِيِّ ثَلاثَ مَرَّات، رُجِمتُ مَرَّةً واحِدَة. اِنكَسَرَت بِيَ السَّفينةُ ثَلاثَ مَرَّات، قَضَيتُ لَيلَةً ونَهارًا في عُرْضِ البَحْر. أَسفارٌ مُتَعَدِّدة، أَخطارٌ مِنَ الأَنَّهار، أَخطارٌ مِنَ اللُّصوص، أَخطارٌ مِن بَني قَومي، أَخطارٌ مِنَ الوَثنِيِّين، أَخطارٌ في المَدينة، أَخطارٌ في البَرِّيَّة، أَخطارٌ في البَحْر، أَخطارٌ مِنَ الإِخوَةِ الكَذَّابين، جَهْدٌ وكَدّ، سَهَرٌ كَثير، جُوعٌ وَعَطَش، صَومٌ كَثير، بَرْدٌ وعُرْيٌ،" (٢ كو ١١: ٢٣-٢٧).
5. توجَّه بولس إلى كورنتس بعد فشله في أتينا، إذ ضحك منه فلاسفتها، رغم استخدامه مخزونه الكبير من العلم والمنطق. فوصل إلى مرفأها، يعتصره الحزن والأسى. نحن اليوم نشابهه في رؤية شعوبنا يُقتلون ويُهجَّرون؛ وأديارنا وكنائسنا تُقصف وتُدمَّر وتُدنّس، وتراثُنا يُهدَم ويُحرق؛ وفي رؤية الفشل من كلّ صوب. ونشعر بالخسارة والتراجع. ولكنّ الربّ لم يترك رسوله في ظلمة ليله الروحيّ، بل أهداه في كورنتوس زوجين رائعين، هما أكيلا وبريسكا، احتضناه وقدّما له المأوى والعمل، وسانداه كثيرًا في الرّسالة. فاكتشف الرّسول بذلك، أنّ الكنيسة ليست قائمة عليه، على نجاحه وفشله، بل تقوم على المسيح الذي هو ربّها وفاديها، القادر أن يزرع مؤمنين حيث لم يبشّر هو بعد. ولذلك أطلق بولس شعاره الجديد في الرّسالة: "أنا لم أعرف شيئًا وأنا بينكم سوى يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب" (١ كو ٢: ٢). فلا الفلسفة ولا العلم ولا القدرة على الوعظ ولا حكمة هذا العالم قادرة على تخليص بني البشر، هذا ما اختبره في أتينا، بل صليب المسيح، عثارًا لليهود وشكًّا للأمم (١ كو ١: ١٧-٢٣). لذلك أكمل كلامه قائلاً: "وقَد جِئتُ إِلَيكم وبي ضُعفٌ وخَوفٌ ورِعدَةٌ شَديدة، ولَم يَعتَمِدْ كَلامي وتَبْشيري على أُسلوبِ الإِقناعِ بِالحِكمَة، بل على أَدِلَّةِ الرُّوحِ والقُوَّة، كَيلا يَستَنِدَ إِيمانُكُم إلى حِكمَةِ النَّاس، بل إلى قُدرَةِ الله" (١ كو ٢: ٣-٥).
6. لقد أحسنت الرّابطة الكتابيّة في الشّرق الأوسط في اختيار موضوع الرّسالتَين إلى أهل كورنتس لأهميّتهما الكبيرة من الناحية العقائديّة والكنسيّة والتدبيريّة. فيها نجد لاهوت الكنيسة الواحدة في الفكر والرأي من دون شقاق، والواحدة مثل وحدة الجسد (1كو1: 10؛ 12: 12)، والمقدّسة بفضل تكوين أبنائها وبناتها أعضاءً في جسد المسيح، وجعل أجسادهم هيكل الرّوح القدس الذي نالوه من الله (1كو6: 15 و19)، والجامعة، إذ فيها الرّسل والأنبياء والمعلّمون وأنواع الألسن (1كو12: 28)، والرسوليّة بفضل المواهب الروحيّة والخدم والأعمال التي يوزّعها الرّوح الواحد للمنفعة العامّة (1كو12: 4-11)، وبفضل طريقِ الكنيسة الأمثل الذي هو المحبّة. فيأتي نشيد المحبّة (1كو13: 1-13) ليتوِّج سرّ الكنيسة.
ويقدّم بولس الرّسول لاهوت سرّ الإفخارستيا وممارسته وواجب الاستعداد الداخليّ له وأهميّته من أجل نيل الحياة الجديدة والشّفاء من أمراض النفس والرّوح والجسد (1كو11: 23-32)، ولاهوت ديمومة الزواج والانعام البولسي، وألوهيّة الرّوح القدس (1كو2: 10؛ 12: 4-11).
بعد هذا التعليم العقائديّ وسواه، يصلح بولس كأبٍ مؤدّب كلّ اعوجاج في الجماعة المسيحيّة من مثل الانقسامات والتحزّبات والفلتان الأخلاقي، من خلال ما يُدلي به من نصائح وتوجيهات. وينهي رسالته الأولى باهتمامه بشأن الكنيسة التي في أورشليم فيجمع لها مساعدات المحبّة (1كو16: 1-4).
7. وفي رسالته الثانية، يكشف بولس عن مكنونات نفسه، وعن وجعه، ولكن عن نعم الله الخارقة التي عضدته. وينهيها بأجمل بركة ثالوثيّة تعتمدها الكنيسة في كلّ ليتورجياتها: "نعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبّة الله، وشركة الرّوح القدس معكم أجمعين" (2كو13: 13).
8. هكذا بشخص بولس، بتعليمه واهتمامه وسهره، يظهر وجه الكنيسة "الأمّ والمعلّمة". وهذا من الأهداف الأساسيّة التي نتوخّاها من دراسة رسالتَي بولس الرّسول إلى أهل كورنتس في هذا المؤتمر. إنّنا معكم نضعه تحت أنوار الرّوح القدس، وحماية أمّنا مريم العذراء، نجمة الكرازة الجديدة بالإنجيل، وبركة الثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، له المجد إلى الأبد.
موقع بكركي.