نذكّر بأن زمن العنصرة هو زمن الكنيسة بقيادة الروح القدس، بواسطة رعاتها وابنائها وبناتها، وبواسطة مؤسساتها الرسولية والاجتماعية، وبواسطة هيكلياتها القانونية والراعوية. وفي كل أحد واسبوع من هذا الزمن ينكشف لنا جانب من وجه الكنيسة.
اليوم، ينكشف وجه الكنيسة المرسلة، من حيث هيكليّتها، وهدف رسالتها، ومقتضيات هذه الرسالة.
واليوم تعيّد كنيستنا عيد الطوباوي أبونا يعقوب حداد الكبوشي، رسول المحبة والرحمة.
1. جهّز الرب يسوع كنيسته، كجماعة روحية منظّمة. فوضع على رأسها بطرس والرسل الأحد عشر، وكلهم كحجارة تأسيسية وكرعاة لها يدبّرون شؤون شعبها بمهام ثلاث: الكرازة بالانجيل من أجل ايقاظ الايمان وتثقيفه، وتوزيع نعمة الأسرار من أجل تقديس المؤمنين بنيل الحياة الجديدة بالروح القدس، وتدبير الجماعة وبناء وحدتها على أساس الحقيقة والمحبة. الرسل الاثنا عشر متواصلون في خلفائهم الأساقفة.
كما جهّزها بالتلاميذ الاثنين والسبعين، الذين كانوا ملازمين له في تعليمه وفي رؤية آياته، وأرسلهم هم أيضًا للرسالة. هؤلاء يمثلون اليوم الكهنة والشمامسة، الرهبان والراهبات، والمؤمنين والمؤمنات الملتزمين، والمنفتحين على الروح الرسولية.
2. تجدر الاشارة إلى أن الكنيسة ليست مجرّد مجتمع منظّم، بل هي جسد المسيح السرّي، الذي هو رأسه، وجماعة المعمدين الموسومين بالميرون المقدس هم اعضاؤه. ولقد وُلدت الكنيسة أساسًا من هبة المسيح ذاته الكاملة بموته وقيامته من أجل خلاصنا. هذه الهبة الكاملة استبقها الرب يسوع بتأسيس سرّ القربان، من اجل استمرارية ذبيحة الفداء وبثّ الحياة الجديدة. وقد شوهدت ولادة الكنيسة في رمزين: في الدم والماء الجاريين من جنبه المجروح بضربة الحربة، وهو ميت على الصليب (راجع يو 19: 34). فكما جبلت حواء من ضلع آدم وهو نائم، هكذا الكنيسة وُلدت من قلب يسوع المطعون، المائت على الصليب (كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 766).
ففي كل مرة نحتفل بذبيحة الصليب، حيث ذُبح المسيح، حملُنا الفصحي (1كور 5: 7)، يتجدد على المذبح عملُ فدائنا. ومع سرّ الخبز القرباني تتمثّل وتنتج وحدة المؤمنين الذين يؤلفون جسد المسيح الواحد (1كور 10: 17). جميع الناس مدعوون الى هذه الوحدة مع المسيح، نور العالم، الذي منه نأتي، وله نعيش، وإليه نصبو (الدستور العقائدي في الكنيسة، 3).
3. الهيكلية التي جهّز بها يسوع كنيسته قائمة على دعوة إلهية تشمل كل مكوناتها الاساقفة والكهنة والشمامسة، والمكرسين والمكرسات. فيشبّه حقول الرسالة بالحصاد الكثير، وهم بالحصّادين القليلين بالنسبة إلى كثرة الحصاد. ولذا، يوصي الرب يسوع "بالصلاة إلى الله، رب الحصاد، لكي يرسل فعلة لحصاده" (متى 10: 2). بهذه الصلاة نحمل همّ المشاركة في التصميم الالهي، على مثال يسوع المسيح الذي أكّد لتلاميذه: "طعامي أن اعمل بمشيئة الذي ارسلني، وأن أتمّم عمله" (يو 4: 34).
4. أمّا هدف الرسالة الموكولة إلى المدعوين فهو أولاً تهيئة القلوب والنفوسلاستقبال نعمة المسيح الشافية: "ارسلهم أمامه الى كل مدينة وكل موضع كان مزمعًا أن يذهب إليه" (متى 10: 1). المدعو، أيًا تكن حالته ومسؤولياته، هو مُرسل من المسيح لا من ذاته، والرسالة خاصة بالمسيح وليست له، والهدف من الرسالة أن يلج المسيح، بكلامه ونعمته، إلى حياة كل انسان.
6. وهو ثانيًا، نقل سلام المسيح الذي قال عنه أنه "غير سلام العالم" (يو 14: 27). ذلك أنه سلام داخلي مع الذات، بحيث يصبح قابلُ هذا السلام منسجمًا مع نفسه ودعوته وواجبه، ومشعًّا بالفرح والسعادة في بساطة العيش والقناعة من دون متطلبات؛ وهو سلام مع الله آتٍ من حفظ وصاياه والعيش في حالة الاتحاد به بالصلاة والحياة الليتورجية والاسرارية؛ وهو سلام مع جميع الناس ويظهر في احترامهم وحسن التعامل معهم، وفي المبادرات والافعال والمواقف.
7. بما أن الرسالة موكولة من المسيح نفسه الى المدعوّين، فانها تقتضي منهم الوداعة والشجاعة لأنه "يرسلهم كالخراف بين الذئاب" (الآية3)، والاتكال على عناية الذي يرسلهم، والتجرّد من خيرات الدنيا، والالتزام بهدف الرسالة من دون التلهّي بشيء سواه؟ : "لا تحملوا كيسًا ولا زادًا ولا حذاء. ولا تسلّموا على أحد في الطريق" (الآية 4).
ويشير الرب إلى مسؤولية الجماعة المؤمنة عن مساندة الرسالة والمرسلين في حاجاتهم بما يجودون يه من سخاء محبتهم: "اقيموا في ذلك البيت تأكلون وتشربون مما عندهم. فالعامل يستحق أجرته" (الآية 7). من هنا لمّ الصواني في قداسات الآحاد والأعياد، وتقديم النذور وحسنات القدسات، والتقادم بمناسبة الخدم الروحية، وفقًا لما تنظمه السلطة الكنسية. هذا فضلاً عن المساهمات من قبل الجميع في بناء الكنائس والقاعات الرعائية، وفي خدمة المحبة تجاه العائلات المعوزة.
ثانيًا، عيد الطوباوي أبونا يعقوب حداد الكبوشي
حدّدت الكنيسة عيده في 26 حزيران، وهو تاريخ وفاته سنة 1956، بعمر 81 سنة، لأنّ تاريخ وفاة القديسين هو تاريخ ميلادهم في مجد السماء. أبونا يعقوب هو خليل ابن بطرس صالح الحداد وشمس يواكيم الحداد من بلدة غزير (كسروان)، حيث ولد في أول شباط 1875.
دخل الرهبنة الكبوشية وسيم كاهنًا في أول تشرين الثاني 1901، واتخذ اسم يعقوب، ربما لأنه يريد أن يعيش إيمانه المسيحي بالأعمال، كما أوصى القديس يعقوب الرسل: "الايمان من دون اعمال ميت" (يعقوب 2: 26).
كان يحمل في قلبه حبّين: محبة صليب يسوع، وكان يهتف إليه: "يا صليب الرب، يا حبيب القلب" وقد رفع واحدًا على تلّة جل الديب حيث مستشفى الصليب للامراض النفسية والعصبية، وواحدًا على تلّة دير القمر التي تطل على العديد من المناطق. ومحبة مريم العذراء، وكانت امه قد سلّمته مسبحتها ارثًا ثمينًا قائلة له: "يا ابني، في ساعة الشّدّة صلّ بمسبحة أمّك". وأشاد للعذراء مزار سيدة البحر حيث بنى دار المسيح الملك لايواء الكهنة على تلة نهر الكلب، في زوق مصبح، رافعًا تمثال المسيح ملك الملوك. هؤلاء حفروا اسماءهم ونقشوها على صخور نهر الكب واندثروا، بينما المسيح ملك الملوك وسيّد السادة باقٍ وحيّ يحتضن بذراعيه جميع الناس، ويدعوهم اليه والى البنوّة لله والاخوّة فيما بينهم.
من هذين الحبّين كانت غيرته الرسولية على تعليم الاولاد وتهيئتهم للمناولة الاولى، مرددًا: "ازرعوا برشانًا تحصدون قديسين"، وعلى التجوال سيرًا على الاقدام من رعية الى رعية، من الساحل الى الجبل للوعظ والارشاد.
ومن هذين الحبين ولدت محبته للفقراء والمرضى في مختلف اوجاعهم وامراضهم فأنشأ المستشفيات والمياتم والمدارس والمراكز الصحّية والاجتماعية. وأسس جميعة راهبات الصليب للاهتمام بعيش هذه المحبة، وتفعيل المؤسّسات التي بناها بايمانه ومحبته وتجرّده وبالاتكال على العناية الالهية.
وكان يوصي راهباته بمحبة جميع المرضى بكلّ أنواعهم، لأنّهم اخوة لنا، واوصانا المسيح بهم، وسمّاهم "اخوته الصغار" (متى 25: 40). وكان شعاره مع راهباته: "تشبّهوا بالينبوع: لا يسأل العطشان، قبل أن يسقيه، من أي دين أو بلد أنت؟"
كان الإحتفال بتطويبه في بيروت في 22 حزيران 2008.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت ساهرٌ أبدًا على كنيستك التي أوكلتَ إليها رسالتك الخلاصيّة لخير كلّ إنسان. نشكرك على عنايتك الدائمة بها، وعلى إرسال فعلة لحصادها الكثير المتزايد. نسألك أن ترسل لها رعاة مثل قلبك، وكهنة ورهبانًا وراهبات محبِّين لك ولصليب الفداء، أمثال الطوباوي ابونا يعقوب. بارك المؤمنين والمؤمنات وأذكِ فيهم روح الغيرة على الكنيسة ورسالتها، فيمارسون بدورهم الرسالة الموكولة إليهم بالمعمودية والميرون، وفقًا لتعليم الكنيسة. قوِّ الجميع، يا ربّ، بمقتضيات الرسالة التي تذكرها لنا في إنجيل اليوم، كي يواصلوها بشجاعة ومن دون خوف من مصاعبها ومعاكساتها. وليرتفع دومًا من أفواه هؤلاء المرسلين وقلوبهم نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي