ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الأخير لزمن الصوم في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّ تأمّله بالقول لا يمكننا أن نفهم العهد القديم بملئه إلا في ضوء تمامه في العهد الجديد، كما وأنه لا يمكننا أن نفهم العهد الجديد إلا في ضوء الثمار التي حملها في حياة الكنيسة؛ فلا تكفي بالتالي الدراسة التاريخية للمراجع وإنما ينبغي أن تؤخذ بعين الإعتبار التأثيرات الناتجة عنها وهذا المبدأ يمكننا أن نطبّقه أيضًا على نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني. واليوم أريد أن أُظهر كيف يمكن تطبيقه على القرار المجمعي الحركة المسكونية "Unitatis Redintegratio"، موضوع تأملنا.
تقسم ثمار هذه الوثيقة إلى نوعين؛ أولاً على الصعيد العقائدي والمؤسساتي إذ قد تمّ تأسيس المجلس البابوي لتعزيز وحدة المسيحيين؛ وتمّ إطلاق حوارات ثنائيّة مع كافة الطوائف المسيحيّة بهدف تعزيز معرفة متبادلة أفضل ومناقشات حول المواقف من أجل تخطّي الأحكام المُسبّقة.
بالإضافة إلى هذه المسكونيّة الرسميّة والعقائديّة نمت منذ البداية أيضًا مسكونيّة اللقاء ومصالحة القلوب. إلى هذه المسكونيّة الروحيّة تنتمي العديد من المبادرات التي من خلالها يلتقي مؤمنو الكنائس المختلفة ليصلوا ويعلنوا الإنجيل معًا بعيدًا عن محاولات الاقتناص "Proselitism" وفي ملء الأمانة كلّ لكنيسته.
وكما أقنع الرب القائم من الموت تلاميذه لينفتحوا على الوثنيين ويقبلونهم في الجماعات المسيحية هو يقوم بهذا الأمر عينه اليوم أيضًا. يرسل روحه ومواهبه على مؤمني الكنائس المختلفة، حتى تلك التي كنا نعتقد أنها بعيدة عنا. وبالتالي كيف لا يمكننا أن نرى في هذا الأمر علامة بأنه يدفعنا لنقبل بعضنا البعض ونعترف ببعضنا البعض كإخوة بشكل متبادل، حتى وإن كنا لا نزال في مسيرة نحو الوحدة الكاملة والمرئيّة.
في الصوم الماضي تأملنا حول الحوار المسكوني مع الشرق الأرثوذكسي، واليوم وفي هذه المناسبة أريد أن أتوقّف عند العلاقات مع المحاور الأكبر في الحوار المسكوني أي مع العالم البروتستانتي، لأُظهر كيف أن كل شيء يدفعنا للسير قدمًا في سبيل تحقيق وحدة الغرب المسيحي. إن المسائل التي سببت الانقسام بين كنيسة روما وكنيسة الإصلاح في القرن التاسع عشر كانت الغفرانات والأسلوب الذي من خلاله كان يتمّ التبرير.
لكنني أعتقد أن جميع المناقشات القديمة العهود بين الكاثوليك والبروتستانت حول الإيمان والأعمال قد حملتنا بعيدًا جدًّا عن النقطة الأساسيّة لرسالة القديس بولس الذي يؤكّد في الفصل الثالث من رسالته إلى أهل روما أننا لا نتبرّر بالإيمان وحسب وإنما بالإيمان بيسوع المسيح، وأننا لا نتبرّر بالنعمة وإنما بنعمة يسوع المسيح، لأنّ المسيح هو جوهر الرسالة قبل الإيمان والنعمة.
وبالتالي وفي هذا السياق يؤكّد القديس بولس الرسول بشجاعة أن التبرير يتم "بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع" و"بطاعة إنسان واحد" (روما 3، 24؛ 5، 19). وهذا ما قد دُعينا نحن اليوم لإعادة اكتشافه وإعلانه معًا.
عندما يلخّص القديس بولس الرسول بجملة جوهر الرسالة المسيحية فهو لا يقول "نعلن لكم هذه العقيدة أو تلك" لا وإنما يقول "إِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصلوب" وأيضًا "نحن نعلن يسوعَ المسيحِ الرَّبّ" وهذا ما تقوم عليه الكنيسة. هذا الأمر لا يعني تجاهل ما قدّمه الإصلاح البروتستانتي من إيجابي ومفيد وإنما السماح للكنيسة بأسرها أن تستفيد من هذا الإنجازات الإيجابيّة. وفي هذا السياق نجد خطوة مهمّة جدًّا وهي "الإعلان المشترك حول عقيدة التبرير" والذي تم التوقيع عليه في الحادي والثلاثين من تشرين الأول أكتوبر عام 1999 بين الكنيسة الكاثوليكيّة والإتحاد العالمي للكنائس اللوثريّة.
على الكنيسة بأسرها أن تعلن التبرير من خلال الإيمان بيسوع المسيح بقوة أكبر من أي وقت مضى، وليس كتناقض مع الأعمال الصالحة وإنما كتناقض مع إدعاء العالم المُعَلمَن بأنّه بإمكانه أن يُخلِّص نفسه بنفسه بفضل العلم والتكنولوجيا والتقنيات الروحيّة التي اخترعها.
وبالتالي أنا مقتنع أن ما يثقل على الحوار المسكوني مع الكنائس البروتستانتية هو الدور المؤخّر الذي تلعبه الصيغ. وأشار الأب كانتالاميسا في هذا السياق إلى أن الصيغ التعليمية والعقائدية التي وعند ولادتها كانت تعكس مسيرة الجماعة والحقائق التي تم التوصل إليها أصبحت تتوق مع مرور الوقت للتصلب والقساوة وتحوّلت إلى "السبب الرئيسي للانقسام"، وهذه هي ظاهرة التمسُّك الشديد بالأشكال الخارجيّة التي شكّلت العائق المنظور للعلاقات مع كنائس الإصلاح.
وفي هذا الإطار أكّد الأب كانتالاميسا أن الإنقسام كان يقوم في حالات عديدة على الصيغ والمعنى المختلف الذي قد أُعطي لها، ولكنها لم تكن تمس بجوهر العقيدة، ولذلك تابع مشيرًا إلى أنّه ينبغي أن نقنع المسيحيين من الطرفين بأن الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت قد انتهت وبأنّه لا يجب أن نضيّع وقتنا وجهودنا في الخلافات وإنما في إعلان يسوع المسيح مخلّص العالم ونوره: الطريق والحق والحياة.
لكن ولتحقيق وحدة المسيحيين لا يكفي أن نتحد في البشارة وأعمال المحبّة، لأنّه ينبغي على وحدة التلاميذ أن تكون انعكاسًا لوحدة الآب والابن وبالتالي ينبغي أن تكون أولاً وحدة محبّة كتلك التي تجمع الثالوث الأقدس.
يحثنا الكتاب المقدّس لنعمل بالحق للمحبّة (أفسس 4، 15) ويؤكد القديس أغوسطينوس أنّه لا يمكننا أن ندخل إلى الحق إلا عبر المحبّة وبالتالي فمسيرة الوحدة تقوم على المحبّة، كما يكتب القديس أغوسطينوس أن العلامة الحقيقية والأكيدة لنوال الروح القدس ليست موهبة اللغات وإنما المحبة في سبيل الوحدة ويقول: إعلموا أنكم نلتم الروح القدس عندما تقبلون أن تلتزم قلوبكم بمسيرة الوحدة من خلال محبّة صادقة"
لنفكر بنشيد المحبة الذي كتبه القديس بولس، كل جملة منه تنال معنى جديدًا وآنيًّا إن طبّقناها على المحبّة بين أعضاء الكنائس المختلفة في العلاقات المسكونيّة: "المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء".
المحبة لا تعني أن ينظر واحدنا إلى الآخر وإنما أن ننظر معًا في الإتجاه عينه؛ والمحبة بين المسيحيين تعني أيضًا النظر في الاتجاه نفسه الذي هو المسيح. المسيح هو سلامنا وإن تبنا وعدنا إليه فسنقترب نحن المسيحيين من بعضنا البعض أيضًا إلى أن نصبح بأجمعنا واحدًا كما هو مع الآب واحد.
وإذ نستعدُّ للاحتفال بعيد الفصح، بيسوع الذي ومن على الصليب "هَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة"... والذي "لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إِلى الآبِ في رُوحٍ واحِد"؛ لنحتفل به إذًا من أجل فرح قلب المسيح ومن أجل خير العالم.