«إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لِأَنقِذَه.... إذهب! أُرسلك إلى فرعون. أخرج شعبي بني إسرائيل من مصر» (خر3/ 7). وأخيراً يكرّر الله مرتين لموسى بأنّه «إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب» (خر3 /6).
هذه العبارات الثلاثة أساسيّة في تاريخ علاقة الله بالإنسان، أساسيّة لإيماننا المسيحيّ. أوّل ما يلفت انتباهنا هو أنّه ليس الله من سيُخرج العبرانيِّين من مصر، من العبودية، بل موسى. أي أنّ الله لا يتدخّل في حياتنا بشكل مباشر، لن يغيّر مجرى أحداث التاريخ، إنّما يتدخّل في حياتنا من خلال الآخرين. وهذا هو الدّور الأساسيّ للكنيسة.
فعلى الكنيسة، موسى اليوم، أن تُعلن الخلاص للعالم وتقوده إلى المسيح المحرّر الحقيقيّ والوحيد. فالمسيح لا يحرّرنا بطريقة سحريّة، بكشفه لنا حقيقتنا، التي، عندما نسكّنها يتمّ تحرّرنا الحقيقيّ. بهذا المعنى نقول بأنّ الله لا يصنع المعجزة بل يسمح لها بأن تتمّ. وهذا هو معنى «إيمانك خلّصك!».
ثانياً الله يسمع مذلّة شعبه. أي أن الله معنا يرافقنا لكنّه لا يفرض ذاته علينا، وبالتالي تحرّرنا يعود إلى اختياراتنا وقراراتنا الحرّة. وفكرة التحرّر والحريّة تشكّل العمود الفقريّ في الكتاب المقدّس: «أنا إله آبائكم، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب».
مفهوم الحرّية تطوّر، ككلِّ مفاهيمنا للكتاب المقدّس ولإيماننا. شعب العهد القديم فهم التحرّر عسكريًا وسياسيًا، ومع المسيح نفهم بأنّ هذا التحرّر هو تحرّر من أصل وأساس كلّ أشكال عبوديّاتنا ألا وهي الخطيئة التي تقودنا إلى الموت.
فالله هو إله التاريخ «إله آبائكم» وعلاقته معنا، وعلاقتنا معه لها تاريخ وتتفاعل مع التاريخ، تتطوّر مع التاريخ. أو بمعنى آخر التطور الذي تعيشه البشريّة ينعكس على مفهومنا لهذه العلاقة. فكيف يمكننا ترجمة هذا الكلام بلغة اليوم؟
الله خلقنا لنكون أحرارًا بحريّتنا. ومسيرة حياتنا تهدف للوصول إلى مركز حياتنا، إلى حقيقتنا، إلى رغبتنا العميقة، التي هي دائمًا الرّغبة في الآخر. بمعنى آخر، مسيرة حياتنا تهدف لتحقيق الوحدة مع ذاتنا، لأنّنا منقسمين على أنفسنا. وهذا ما يعبّر عنه بولس الرّسول بأفضل تعبير عندما يقول: «الخير الذي أريده لا أفعله والشرّ الذي لا أريده فإيّاه أفعل».
من هذه الوحدة تنبع الحريّة الحقيقيّة. فالحريّة لا تُعطى، إنّما كما يُقال، تُقتنص اقتناصًا. نحن من نحقـِّق حرّيتنا من خلال الوحدة مع ذاتنا. والقدِّيس اغناطيوس دي لويولا يتحدّث عن وحدة الرّغبات. هذا هو المعنى العميق للتوبة والاهتداء. فالتوبة تعني الوعي بأنّنا ابتعدنا عن مركز ومحور حياتنا، عن حقيقتنا، لم نعد موّحدين مع ذاتنا، منقسمين على ذاتنا.
والاهتداء هو محاولة العودة إلى هذا المركز. إلى الله. فأن أكون خلّاقاً، لا يعني أبداً أن أكون متميّزا عن الآخرين، إنّما أن أكون ممّيزاً، أي أن أعيش هذه الوحدة والانسجام مع ذاتي. وبالتالي يكون كلامي عمل وليس مجرّد كلام.
حياتنا هي عبور مستمرّ وتأرجح دائم بين الوحدة مع ذاتنا والابتعاد عنها. لكن للأسف في أغلب الأحيان نحن بعيدين عنها ولذلك لسنا سعداء، لسنا أحرار، لا نفيض ولا نشّع حياة. والخطيئة هي التي تبعدنا عن ذاتنا وبهذا المعنى تقودنا إلى الموت، فالموت ليس عقاباً على الخطيئة، بل نتيجة لها.
ولهذا السّبب الوصول إلى مركز حياتنا والاقامة فيه، أن نسكن حقيقتنا يتطلّب مسيرة حياتنا بمجملها والله هو انتظار دائم لنا، لا يفقد الأمل فينا أبداً لأنّه يثق بنا ونحن من لا يثق به. هذا هو معنى مثل التينة اليابسة. التينة في الحقيقة ميتة، لكن الكرّام يستمرّ بالإهتمام بها واثقـًا أنّها ستقوم وتعطي ثمارًا من جديد.
فإذا كان اهتمام الكرّام هو الذي يسمح لها بأن تعطي الثمار، فحضور الله، في حياتنا، في داخلنا هو الذي يسمح لنا بالعودة إلى حقيقتنا، إلى الحياة بكلّ بساطة، وأن نعطي ثمارًا؛ لأنّ الله هو إله الحياة، كما يقول لنا الإنجيليّ لوقا: «فما كانَ إلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء، فهُم جَميعاً عِندَه أَحْياء» (لو 20، 38).
فالموت حاضر وينتظرنا في كلّ لحظة بغض النّظر عن أسلوب حياتنا وطريقة موتنا. بهذا المعنى يقول لنا المسيح بأنّ الذين قتلهم بيلاطس والذين وقع عليهم برج سلوان ليسوا أكثر خطيئة. ليست الطريقة التي نموت بها هي المهمّة، إنّما أن نكون مع ذاتنا متّحدين خلاّقين وأحرارًا. آنذاك يصبح الموت عبور حقيقيّ باتّجاه الحياة.
في فترة الصّيام هذه، لندع حقيقتنا تعمل فينا فتحرّرنا من كلّ ما يمنعنا من تحقيق وحدة ذواتنا، ويكون صيامنا مسيرة موت تتكلّل بالقيامة.
الأب رامي الياس اليسوعي