ما أجملها وأعذبها هذه الكلمات التي نسمعها من يسوع: "إنّ شعر رأسكم كلّه معدود، فلا تخافوا! إنّكم أفضل من عصافير كثيرة". إنّها تمنحنا ثقة وسلام، ينبعان من شعور عميق بالبنوّة. الله هو آب يعتني بنا، يرافقنا ويحمينا، في كلّ لحظة في حياتنا. لا شيء يفصلنا عن حبّ يسوع لنا، ولا شيء يقوى علينا.
ونحن نحتاج إلى سماع كلمات يسوع هذه، لأنّ حياتنا ليست سهلة، ونواجه تحدّيات وصعوبات كثيرة في مسيرتنا، تجعلنا نتساءل عن هويّتنا، ومعنى الحياة، وقيمة وجودنا وعلاقاتنا وأعمالنا. ويقول لنا يسوع إمّا أن نواجه الحياة مثلما يفعل الفريسيّون، أو أن نحياها بصفتنا أبناء وبنات الله.
يواجه يسوع رفض الفريسيّين له وحقدهم الذي بلغ مبلغًا شديدًا، لدرجة أنّهم يريدون استدراجه بكلمة ليدينوه فيجدوا سببًا لقتله. كان يسوع يوبِّخ الفريسيِّين لأنّهم يهتمُّون بالظواهر "وباطنكم ممتلئ نهبًا وخبثًا" (لو 11: 39)، "تؤدّون عُشر النعنع والسّذاب وسائر البقول وتهملون العدل ومحبّة الله" (لو 11: 42)، "تحبّون صدر المجلس في المجامع وتلقّي التّحيّات في السّاحات. الويل لكم، أنتم أشبه بالقبور التي لا علامة عليها، يمشي الناس عليها وهم لا يعلمون" (لو 11: 43-44)، "تحمّلون أحمالاً ثقيلة، وأنتم لا تمسّون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم" (لو 11: 46)، "إنّكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم هم الذين قتلوهم" (لو 11: 47).
ما الذي أوصل الفريسيِّين إلى قساوة القلب والرّياء، الكبرياء والغرور، عدم الرّحمة والظلم والنفاق؟ بدلاً من أن يجعلوا أنفسهم ينقادون بكلمة الله، يفهمون تأثيرها في قلوبهم، يتبعونها بوداعة وسخاء، حوّلوها إلى متاع أو مُلك شخصيّ، صارت لهم كلمات صمّاء بلا روح، يتلاعبون بها لإحكام السطوة على المساكين والتسلّط على الناس. فلم يدركوا محبّة الله ورغبته في العدل، ولم يفهموا رحمته ومغفرته حبّه العظيم للناس. وثارت ثائرتهم على يسوع لأنّه أعلن أنّ الله أبو البشر، مصدر كلّ أبوّة في السَّماء والأرض (أف 3: 14)، كلّه حبّ وحنان ورحمة.
ضلّ الفريسيّون الطريق، غاب عنهم الإله الحقّ، فصاروا ذئاب بشريّة ينهشون لحوم البشر، وهم يدّعون أنّهم أفضل الناس وأتقاهم. فعمى القلب يؤدّي إلى الكبرياء ومن ثمّ العنف الذي يريد التخلّص من كلّ مَن يختلف معهم في الرأي. وهذا كلّه باسم الله! لقد خلقنا الله بكلمته، ولا يمكننا الحياة بدونها، فإذا ضاعت، أُهملت أو تشوّهت في حياتنا، أصبحنا ترابًا بلا روح، أجسامًا بلا قلب، وانعدمت من حياتنا الأبوّة والأخوّة والبنوّة، أي كلّ ما هو إنسانيّ حقًّا. الله هو ضمان وجودنا الإنسانيّ وهو بكلمته مَن يجعلنا بشرًا.
وقد كان يسوع هذا الإنسان الذي يحيا بكلمة الله، فصار تلميذًا لها وعرف سرّ الآب. ترك الرّوح القدس يقوده وينيره، فكان ينصت إليه ويتعرَّف إلى حضوره العجيب في قلبه، وذلك من خلال تأمّله الكتاب المقدّس وقراءة أحداث حياته وحياة الناس من حوله. ولأنّ يسوع كان يسمع كلمة الله ويعمل بها، صار أبًا وأخًا للجميع (لو 8: 21). سكن قلبه في السّلام وهو يرى المكائد تُحاك حوله، وأفق الآلام والصَّليب يلوح في الأفق. تعلّق بكلمة أبيه: "أنت ابني الحبيب" (لو 3: 22)، وعليها اتّكل وسط الكراهية المتنامية وكذب الفريسيّين وعنّفهم. تقدّم على الطريق الذي يقوده نحو أورشليم، واثقـًا كلّ الثقة بأنّ أباه يعتني به، ولن يدع الموت يملك عليه، بل سيمنحه الحياة فيّاضة بالرُّغم من الصَّليب.
الحياة اختيار وقرار، هل نتمسّك بكلمة الحياة نتركها تقودنا برفق ولطف وعذوبة، أم نختار طريق الكذب والنفاق، الكبرياء والتعالي؟ يدعونا يسوع إلى اختيار الحياة الحقيقيّة التي يمنحنا إيَّاها، طريق البنوّة والمحبّة الأخويّة، البساطة والتواضع، القناعة والمشاركة، حتّى وإن أدّى بنّا إلى عدم فهم النّاس لنا، تعرضنا للرَّفض والنبذ. لا يقدر إنسان بقوَّته على اختيار الحياة ولكنّ روح الله هو الذي يهبنا أن نكون أخوة يسوع وتلاميذه.
ويمكننا القول إنّه يوجد معياران أكيدان على اتّخاذنا القرار الصَّحيح، يكمن الأوّل في حبّنا النّاس كما نحبّ أنفسنا، في اعتبار أنفسنا خدَّامًا للحياة في الآخرين، في موقف الرَّحمة والمغفرة الذي يلهم كلماتنا ومواقفنا مع الناس.
والمعيار الثاني هو الثقة والرَّجاء وسط المعاناة، في تجربة الفشل والافتقار، في اختبار الآلام المعنويّة والجسمانيّة. في وقت الضيق يُمتحن إيماننا بمحبّة الآب وبحضوره في حياتنا، وفي الليل يُختبر رجاؤنا في الفجر القادم. لنختر الحياة مع يسوع، ولا نخف لأنّ شعر رأسنا كلّه معدود ونحن أفضل من عصافير كثيرة.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ