ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الرابعة عصر الأربعاء السابع عشر من شباط فبراير بالتوقيت المحلّي القداس الإلهي في مركز المعارض في سيوداد خواريز مختتمًا زيارته الرسوليّة إلى المكسيك وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول:
"مجد الله يكمن في حياة الإنسان"، عبارة كان القديس إيريناوس يردّدها في القرن الثاني وصداها لا يزال يتردّد في قلب الكنيسة. ما من مجد أعظم للأب إلا في رؤيته لأبنائه يحققون ذواتهم وفي رؤيتهم يسيرون قدمًا، ينمون ويتطوّرون. وهذا ما تؤكّده لنا القراءة الأولى التي سمعناها (سفر يونان3/ 1- 10)، نينوى: مدينة كبيرة كانت متوجّهة نحو دمارها الذاتي، ثمرة الإنحطاط والعنف والظلم. لقد كانت أيّام هذه العاصمة الكبيرة معدودة لأن العنّف الذي كان يولّد في داخلها لم يعد يُطاق. وفي هذا الإطار يدخل الرّبّ ويحرّك قلب يونان، يدخل الآب ويدعو رسوله ويرسله. لقد دُعي يونان لينال رسالة. إذهب، يقول له الرّبّ لأن "بَعدَ أَربَعينَ يَومًا تنقَلِبُ نينَوى" (يونان ۳،٤). إذهب وساعدهم ليفهموا أنهم ومن خلال طريقة تصرُّفهم هذه هم يولّدون فقط موتًا ودمارًا، ألمًا وظلمًا. ولذلك انطلق يونان! لقد أرسله الله ليسلّط الضوء على ما كان يحدث، أرسله ليوقظ شعبًا سكرانًا بنفسه.
في هذا النص نجد أنفسنا أمام سرّ الرحمة الإلهيّة. الرحمة تطرد الشرّ على الدوام، آخذة الكائن البشري على محمل الجدّ، هي تُسائل الصلاح المُخدَّر لكل شخص بشري. إن الرحمة تقترب من كل حالة لتحوّلها من الداخل؛ هذا هو سرّ الرحمة الإلهيّة، تقترب وتدعو إلى الإرتداد، تدعو إلى التوبة؛ تدعو لرؤية الضرر الذي يتمُّ على جميع المستويات. إن الرحمة تدخل على الدوام في الشرّ لتحوّله. لقد أصغى الملك، وتحرّك أهل المدينة وتمّت المناداة بالتوبة. لقد دخلت رحمة الله إلى القلوب وأظهرت ما سيكون عليه يقيننا ورجاؤنا: هناك على الدوام إمكانيّة للتغيير، لا يزال أمامنا الوقت لنحوّل ونغيّر ما يدمِّرنا كشعب وما يدمِّرنا كبشريّة. إن الرحمة تشجّعنا على النظر إلى الحاضر والثقة بما هو سليم وصالح ويختبئ في كل قلب.
لقد ساعدهم يونان على الرؤية، ساعدهم ليعوا ويدركوا. وبعد دعوته على الفور وجد رجالاً ونساء قادرين على التوبة والبكاء. إنها الدموع التي بإمكانها أن تفتح درب التحوّل؛ إنها الدموع التي بإمكانها أن تليِّن القلب، إنها الدموع التي بإمكانها أن تنقّي النظر. إنها الدموع التي باستطاعتها أن تحرّك وتلمس نظراتنا ومواقفنا المتصلّبة لاسيما إزاء آلام الآخرين.
إن صدى هذه الكلمة يتردّد اليوم بقوّة بينكم؛ هذه الكلمة هي الصوت الصارخ في البريّة والذي يدعونا إلى التوبة. في سنة الرحمة هذه أريد أن ألتمس الرحمة الإلهيّة معكم من هذا المكان وأريد أن أطلب معكم نعمة الدموع ونعمة التوبة.
هنا في سيوداد خواريز كما في مناطق الحدود الأخرى يجتمع آلاف المهاجرين من أمريكا الوسطى وبلدان أخرى، بدون أن ننسى العديد من المكسيكيين الذين يحاولون أيضًا أن يعبروا "إلى الجهة الأخرى". إنه عبور ومسيرة محمّلان بظلم رهيب: يُستعبدون ويخطفون ويصبحون ضحيّة للإتجار بالبشر. لا يمكننا أن ننكر الأزمة البشريّة التي وخلال السنوات الأخيرة قد أدّت إلى هجرة آلاف الأشخاص. هذه المأساة البشريّة المُمثَّلة بالهجرة القصريّة، تشكل في يومنا هذا ظاهرة عالميّة.
هذه الأزمة التي تقاس بالأعداد، نحن نريد أن نقيسها بالأسماء والقصص والعائلات. إنهم إخوة وأخوات ينطلقون يدفعهم الفقر والعنف وتجارة المخدّرات والجريمة المنظّمة. لا يعانون الفقر فقط وإنما ولاسيما أشكال العنف هذه أيضًا.
ظلم يتجذّر في الشباب: يُضطهدون ويُهدّدون عندما يحاولون الخروج من دوامة العنف وجحيم المخدّرات وماذا يمكنني القول عن العديد من النساء اللواتي فقدن حياتهنَّ ظلمًا.
لنطلب من إلهنا عطيّة الارتداد وعطيّة الدموع، ولنسأله على مثال أهل نينوى أن يكون قلبنا مفتوحًا على ندائه في الوجوه المتألّمة للعديد من الرجال والنساء. لا للموت والاستغلال بعد الآن! هناك على الدوام وقت للتغيير، هناك على الدوام طريق للخروج، هناك على الدوام زمن لالتماس رحمة الآب.
وكما حصل في أيام يونان، لنراهن اليوم أيضًا على الإرتداد، هناك علامات تصبح نورًا للمسيرة وإعلان خلاص. أنا عالم بعمل العديد من المنظمات في المجتمع المدني لصالح حقوق المهاجرين، كما أيضًا بالعمل المُلتزم للعديد من الراهبات والرهبان والكهنة والعلمانيين الذين يبذلون حياتهم في مرافقة الحياة والدفاع عنها؛ إنهم أنبياء رحمة من خلال حياتهم، إنهم القلب المتفهّم والأرجل التي ترافق الكنيسة التي تفتح ذراعيها لتعانق.
إنه زمن ارتداد، إنه زمن خلاص، إنه زمن رحمة، لذلك لنعلن معًا مع ألم العديد من الوجوه: "على قدر رأفتك ورحمتك، يا رب ارحمنا... طهّرنا من خطايانا واخلق فينا قلوبًا نقيّة وأرواحًا جديدة".
إذاعة الفاتيكان.