عيد انتقال سيّدتنا مريم العذراء. هذا العيد هو أقدم الأعياد المريميّة، وتمَّ إعلانه رسميًا من قداسة البابا بيوس الثاني عشر، عام 1950. فيه نحتفل مع كلِّ الكنيسة بانتقال السيّدة العذراء مريم، أمّ الله، والدة المخلّص، بنفسها وجسدها إلى السّماء. ونتأمّل تكليلها ملكة السّماء، منتصرةً مع إبنها الإلهيّ للأبد، في السّماء، في الفردوس.
لكن، ما هي السّماء، وما هو هذا الفردوس؟
عندما طلب اللّص الذي صُلب مع المسيح: "أذكرني يا ربّ، إذا جئتَ في ملكوتك"، أجابه يسوع: "اليوم تكون معي، في الفردوس" (لوقا 23: 42-43). نعم هذا هو الفردوس، أن نكون مع المسيح. الفردوس ليس مكاناً مادياً، أو أكلاً أو شُرباً، أو متعةً جسديّة.
هو علاقةٌ دائمة ومتجدِّدة أبدياً مع المسيح، بعد أن عِشنا مثلما قال بولس الرّسول (رومة 8 :35-39): "فمن يفصلنا عن محبَّة المسيح؟ أتفصلنا الشدّة أم الضيق أم الإضطهاد، أم الجوع أم العُرْى، أم الخطر أم السيف.. ولكنّنا في هذه الشّدائد ننتصر كلَّ الانتصار بالذي أحبّنا. وأنا على يقين أنّ لا الموت ولا الحياة... ولا الحاضر ولا المستقبل ولا شيء في الخليقة كلِّها، يقدر أن يفصلنا عن محبَّة الله في المسيح يسوع ربَّنا".
نعم ولا حتى الموت. وهذه هي نقطتنا الأساسيّة. فقد يحيا الإنسان وكأنّه لن يموت أبدًا، معتقدًا بأنّه هو مصدرُ حياته، وأنّ جهده وعلمه وقدراته تستطيع وحدها أن تمنحه الحياة والسّعادة. فيعمل ويعمل، مثل ذلك الغنيّ الجاهل، الذي تكلّم عنه يسوع، كما جاء في إنجيل القدّيس لوقا (12 :16-21). كان كلّ همّ ذلك الرّجل أن يعيش ليشيِّد المخازن الكبيرة، فيكدّس فيها خيراته الوفيرة. ونسيَ هذا الغنيّ أنّه سيموت، وأنَّ الموت هو نهاية كلّ شيء. فأخذ قرارًا بأن يستريح ويأكل ويشرب، ويمتّع نفسه، بعيدًا عن الصّعوبات والآلام والتضحيات.
وللأسف يعيش كثير من الناس على مثال ذلك الرّجل. يتهافتون وراء المال، والخيرات الأرضيّة، والشّهوات الحسّية. لا يبالون بالقِيم الدّينية والأخلاقيّة، واضعين أولوياتهم في المنفعة والمصلحة والمتعة قبل كلّ شيء، حتى إذا كانوا يعرفون أنّ الموت آتٍ لا محالة. وبعضهم يقول: لماذا يجب أن أضحّي اليوم، إذا كنت سأموت غدًا.
وبهذا المعنى يقول صاحب كتاب "الجامعة" (2 : 4-11): " قمتُ بأعمالٍ عظيمة: بنيتُ لي بيوتاً، وغرستُ كرومًا. أنشأتُ لي جنائِنَ وبساتين، وغرستُ فيها أشجارًا من كلّ ثمر. صنعتُ لي بِرَكَ ماءٍ لأسقي النباتات النامية. اقتنيتُ عبيدًا وإماءً. وكان بيتي عامرًا بالبنين.. وما حرمتُ عيْنَيَّ شيئاً تمنَّتاه، وما منعتُ قلبي شيئاً من الفرح… ثمّ التفتُ إلى جميع ما عمِلتْ يَدايَ، وإلى ما عانيْتُ من التعبِ في عمله. فإذا كلُّ شيءٍ باطلٌ وقبضُ ريح".
نعم، هناك لحظة يجد الإنسان نفسه وحيدًا، لا أحد ولا شيء ينفعه، لا أخ ولا صديق، لا حبيب ولا إبن، لا ممتلكات ولا شهادات. هكذا في الوحدة، أو المرض، أو عدم معنى الحياة. وعندما يُدرك الإنسان هذا، يسقط في هوّة الإحباط. ولا يجد أمامه إلّا أن يتمنّى الموت، ليحرِّره من باكورة الموت الآتي. فيحيا كميتٍ هاربٍ وخائفٍ من الموت، وقد يُنهي حياته بنفسه.
لذلك، عندما تحتفل الكنيسة بعيد انتقال سيّدتنا مريم العذراء، تعلنُ الرّجاء لنا ولكلِّ إنسان: السَّماءُ مفتوحة، الفردوسُ موجود، والموت منهزم. فقد انكسرت شوكته، ولم تعد له الكلمة الأخيرة. وها نحن نؤمن ونعرف أنّ مريم العذراء في السَّماء الآن. وهي تعلن لنا مع جوقة القدِّيسين: هذه الأرض ليست وطنكم الدائم، فارفعوا أعينكم وانظروا إلى السَّماء.
نعم، فلننظر إلى السَّماء، حيث مريم مكلّلة بنجومها. وعلينا أن نعيش راجين أن نكون هناك يومًا في صحبتها المجيدة. وبهذا يُصبح للأرض معنى وقيمة أكبر. فلا تستطيع صعوبات الحياة اليوميّة وقسوتها، أن تزرع فينا بذور اليأس، أو تسرق منّا فرحة حياتنا ودعوتنا ورسالتنا.
فيا ربّ، يا من رفعت مريم العذراء بالنفس والجسد إلى هذا المجد، إمنحنا نحن أيضا في حياتنا الأرضيّة، أن نشتاق إليك ونرجوك، وعند لحظة موتنا، نجدك أنت تستقبلُنا للأبد، بشفاعة أمّنا العذراء مريم، سيِّدة السَّماء. آمين.
موقع زينيت.