"أَنتُم مِلحُ الأَرض، فإِذا فَسَدَ المِلْح، فأيُّ شَيءٍ يُمَلِّحُه؟" هذا هو السؤال الذي تمحور حوله تأمّل الأب إرميس رونكي في عصر اليوم الثالث من الرياضة الروحيّة التي يقيمها بمشاركة الأب الأقدس وأعضاء الـ "كوريا" الرومانية في بلدة أريتشا القريبة من روما لغاية الحادي عشر من آذار الجاري تحت عنوان "أسئلة الإنجيل الجوهريّة والواضحة".
قال الأب إرميس رونكي: لقد شكل الملح على الدوام عنصرًا ثمينًا ومليئًا بالمعاني ولكنه كان على الدوام علامة للحفاظ على ما له قيمة ويستحق أن يبقى ويستمرّ تمامًا كما يحصل فيما يتعلّق بالأكل.
التلاميذ هم كالملح، يحافظون على ما يغذّي الحياة على الأرض أي كلمة الله والإنجيل اللذين يدخلان في الأشياء ويجعلانها تستمر وتبقى. ملح الأرض ونور العالم يقول يسوع في الإنجيل وتواضعهما هو مثال للكنيسة وللتلاميذ.
هذا هو تواضع الملح والنور فهما لا يلفتان الأنظار إليهما ولا يجعلان من نفسيهما محورًا للأمور وإنما يعطيان قيمة لما يلتقيان به. وهذا هو تواضع الكنيسة وتواضع تلاميذ الرب الذين لا ينبغي عليهم أن يلفتوا الأنظار إليهم وإنما إلى الخبز والبيت وحياة البشر وجوعهم الكبير لدرجة أنه لا يمكن لله أحيانًا إلا أن يتّخذ شكل الخبز ليشبعهم.
وكالنور نحن أيضًا ينبغي علينا أن نتحلى بنظر منير لكي وعندما يقع نظرنا على الأشخاص يظهر فيهم كل ما هو جميل في الإنسان؛ وكالملح أيضًا ينبغي أن تظهر قيمتنا وحَسب في لقائنا مع الآخرين. لنتأمّل بالملح. لطالما هو موجود في وعائه وفي خزانة في المطبخ هو لا ينفع أحدًا ولا يفيد؛ لأن هدفه هو الخروج من ذاته والانحلال ليجعل الأشياء أطيب: فهو يعطي ذاته ويختفي. هكذا ينبغي أن تكون الكنيسة أيضًا تبذل ذاتها وتذوب وتشتعل؛ تعيش من أجل الآخرين.
إن انغلقت في ذاتي، حتى وإن تحلّيت بجميع الفضائل ولكنني لا أشارك الآخرين في حياتهم كالملح والنور فأنا أعيش إذًا بحالة خطيئة. وهكذا الكنيسة أيضًا فهي ليست الهدف وإنما وسيلة لتجعل حياة الأشخاص أجمل وأكثر صلاحًا.
قد يفقد الإنجيل معناه ونكهته أحيانًا وهذا الأمر يحصل في كل مرّة نفقد قدرتنا على نقل الحب للأشخاص الذين نلتقي بهم، وكذلك الرّجاء والحريّة عطايا الله. فعندما نمتثل مع النظام بدون أن نسير بعكس التيار وعندما نتبع الإنجيل ونجسّد التطويبات في حياتنا ولكننا لا ننمو في الإنسانيّة نكون تمامًا كالملح الذي فقد طعمه، نكون أشخاصًا يختبئون خلف أقنعة الخوف. إن الناس يريدون أن يجدوا في تلميذ الرب شهادة حياة وليس مجرّد عقائد وتعاليم. كما وأنهم لا يسألوننا إن كان الله قد وُضع بين يدينا وإنما ماذا فعلنا بهذا الإله؟
لكن الله يثق بالبشر، فيسوع لا يقول لنا: "اجتهدوا لتكونوا ملح الأرض ونور العالم" وإنما يقول "أنتم ملح الأرض ونور العالم". فالنور هو عطيّة طبيعية للذي يلتقي الله والتحلّي بطعم للحياة هو عطيّة الذي يقيم في الإنجيل. وبالتالي فالأمر متعلّق بنا لندرك ونتيقّن لهذا الواقع وننقل النور والطعم للعالم. فمهمتنا هي ألا يضيع الملح والنور وأن نعطي سحرًا جديدًا للحياة ونسمح للمسيح بأن يدخل إلى حياتنا فنعيش بشركة مع الآخرين.
هناك مثل يهودي يقول إن كل إنسان يأتي إلى العالم يحمل شعلة صغيرة على جبينه ولا يمكن رؤيتها إلا من خلال القلب وهي كنجم يسير أمامنا. وعندما يلتقي شخصان، تذوب شعلتاهما الواحدة في الأخرى وتنتعشان فيولّد هذا اللقاء نورًا. ولكن عندما يبقى شخص ما لفترة طويلة بدون أن يلتقي بشخص آخر تضعف هذه الشعلة رويدًا رويدًا وتنطفئ، فتغيب هذه النجمة عن مسيرته. إن نورنا يعيش من الشركة واللقاء والمقاسمة. فلا نهتمنَّ إذًا بعدد الأشخاص الذين يمكننا إنارتهم، فما يهم ليس أن يتمَّ النظر إلينا أو أن يتم إغفالنا وإنما أن نكون حراسًا للنور ونعيش مشتعلين بهذا النور فنحافظ هكذا على توهّج قلوبنا.
إذاعة الفاتيكان.