أعداء الرجاء

متفرقات

أعداء الرجاء

 

 

 

 

أعداء الرجاء

 

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!

 

نتأمل خلال هذه المرحلة حول الرجاء، ولكنني أريد اليوم أن أتأمّل معكم حول أعداء الرجاء، لأنَّ الرجاء لديه أعداء، ككلِّ خير في هذا العالم.

 

لقد عادت إلى ذهني أسطورة صندوق باندورا الذي أطلق فتحه العديد من الكوارث لتاريخ العالم. لكنَّ قليلين يتذكّرون القسم الأخير من الرواية والذي يعطي بصيص نور: بعد أن خرجت جميع الشرور من الصندوق، بدا أن عطيّة صغيرة قد انتصرت إزاء كلِّ الشرّ الذي كان يسيطر. وباندورا، المرأة التي كان قد عُهِد إليها بالصندوق، كانت آخر من رأتها: يسمّيه اليونانيّون "elpìs" ومعناه الرجاء.

 

تخبرنا هذه الأسطورة مدى أهميّة الرجاء بالنسبة للبشريّة. ليس صحيحًا أنّه "طالما هناك حياة فهناك رجاء"، كما اعتدنا القول. وإنما العكس لأنّ الرجاء هو الذي يعضد الحياة ويحميها ويحرسها ويجعلها تنمو. لو لم يعزّز البشر الرجاء ولو لم يتمسّكوا بهذه الفضيلة لما خرجوا من الكهوف ولمّا تركوا أثرًا في تاريخ العالم. إنّه أكثر شيء إلهي يمكن أن يوجد في قلب الإنسان.

 

لقد ترك لنا أحد الشعراء الفرنسيين – شارل بيغي – صفحات رائعة حول الرجاء. فهو يقول بشكل شاعري أن الله لا يندهش لإيمان البشر ولا لمحبّتهم، ولكن ما يملؤه فعلاً بالدهشة والتأثُّر هو رجاء الأشخاص، ويكتب: "ليرَ هؤلاء الأبناء المساكين كيف تسير الأمور ويؤمنوا أنها ستكون أفضل غدًا". تذكّرنا صورة الشاعر بوجوه العديد من الناس الذين عبروا في هذا العالم – فلاحون وعمال فقراء ومهاجرون يبحثون عن مستقبل أفضل – وكافحوا بقوّة بالرغم من مرارة حاضر صعب مليء بالمحن، ولكن كانت تُحرّكهم الثقة بأنَّ أبناءهم سيحصلون على حياة أكثر عدالة وطمأنينة. لقد كانوا يكافحون من أجل أبنائهم؛ كانوا يكافحون من أجل الرجاء!

 

الرجاء هو الدفع في قلب من ينطلق تاركًا البيت والأرض والأهل والأقارب أحيانًا – وأفكّر بهذا السياق بالمهاجرين –، ليبحث عن حياة أفضل وأكثر كرامة له ولأحبائه. إنّه الدفع أيضًا في قلب من يقبل الرغبة باللقاء والتعرّف على الآخر والحوار... الرجاء هو الدفع لـ "مقاسمة مسيرة" الحياة، لأن المسيرة يقوم بها طرفان: أولئك الذين يأتون إلى أرضنا ونحن الذين نذهب إلى قلوبهم لنفهمهم ونفهم ثقافتهم ولغتهم. إنها مسيرة يقوم بها طرفان ولكنها لا تتحقّق بدون الرجاء. لأنَّ الرجاء هو الدفع لـ "مقاسمة مسيرة" الحياة، كما تذكّرنا حملة كاريتاس التي نفتتحها اليوم. لا نخافنَّ أيها الإخوة من مقاسمة المسيرة! لا نخافنَّ من مقاسمة الرجاء!

 

الرجاء ليس فضيلة لأشخاص قد ملأوا بطونهم. لذلك وعلى الدوام كان الفقراء حملةُ الرجاء. وبهذا المعنى يمكن القول أن الفقراء وحتى المتسوّلين هم روّاد التاريخ. ولكي يدخل إلى العالم استعان الله بهم: بيوسف ومريم وبرعاة بيت لحم. وفي ليلة أول ميلاد كان هناك عالم نائم يرتاح في العديد من الضمانات المُكتسبة. لكن المتواضعين كانوا يحضِّرون في الخفاء ثورة الصّلاح. لقد كانوا فقراء ينقصهم كلَّ شيء، وكان بعضهم يعيش فوق عتبة البقاء على قيد الحياة، ولكنّهم كانوا أغنياء بالخير الأثمن الموجود في العالم، أي بالرّغبة بالتغيير.

 

أن تعطينا الحياة كلَّ شيء هو، أحيانًا، نوع من سوء الحظ. فكِّروا بشاب لم يتعلّم فضيلة الانتظار والصبر، ولم يتوجّب عليه أن يتعب ليحصل على شيء، وحرق جميع المراحل وفي سنّ العشرين "هو يعرف كيف يسير العالم"؛ لقد كُتب لهُ أسوأ الأحكام: بألّا يرغب بشيء بعد الآن. وهذا هو الحكم الأسوأ على الإطلاق لأنّه يغلق الباب في وجه الطموحات والأحلام. يبدو شابًا ولكنّ الخريف قد سيطر على قلبه. وبالتالي يمكننا تسميتهم شباب الخريف.

 

وأسوأ حاجز للرّجاء هي النفس الفارغة. إنّه خطر لا يُستثنى منه أحد، لأنَّ التجارب ضدّ الرّجاء يمكن أن تواجهنا حتى عندما نسير درب الحياة المسيحيّة. لقد أدان الرّهبان القدامى أحد أسوأ أعداء الحماس: "شيطان الظهيرة" الذي يُتعب حياة الالتزام عندما تكون الشمس عالية وسط السّماء. هذه التجربة تفاجئنا عندما لا نتوقّعها: تصبح الأيّام روتينيّة وضجِرة، ويبدو أنّ ما من قيمة تستحقُّ العناء. هذا الموقف يسمّى الكسل وهو يقضي على الحياة من الدّاخل إلى أن يتركها كقشرة فارغة.

 

عندما يحدث هذا الأمر، يعرف المسيحيّ أنّه ينبغي عليه محاربة هذا الوضع لا أن يقبله وهو مكتوف اليدين. إنَّ الله قد خلقنا للفرح والسعادة ولا للتكاسل في أفكار تعيسة. لذلك من الأهميّة بمكان أن نحافظ على قلبنا، رافضين تجارب التعاسة التي لا تأتي بالتأكيد من الله. وحيث تبدو قوانا ضعيفة والمعركة ضدّ اليأس صعبة، يمكننا أن نلجأ على الدوام إلى اسم يسوع. يمكننا أن نكرّر تلك الصّلاة البسيطة التي نجدها أيضًا في الأناجيل والتي أصبحت أساس العديد من التقاليد الروحيّة المسيحيّة: "أيها الرَّبّ يسوع المسيح، ابن الله الحيّ، إرحمني أنا الخاطئ!" جميلة هذه الصّلاة: "أيّها الرَّبُّ يسوع المسيح، ابن الله الحيّ، إرحمني أنا الخاطئ!" إنّها صلاة رجاء، لأنّني أتوجّه من خلالها إلى الذي بإمكانه أن يُشرِّع الأبواب ويحلّ المشاكل ويجعلني أنظر إلى الأفق، أفق الرَّجاء.  

 

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لسنا وحدنا في كفاحنا ضدّ اليأس. إن كان يسوع قد غلب العالم فهو قادر على أن يغلب فينا كلّ ما يتعارض مع الخير. إن كان الله معنا فلن يسلبنا أحد تلك الفضيلة التي نحتاج إليها لنعيش: ما من أحد سيسلبنا الرّجاء. لنسر إذًا إلى الأمام .

 

 

 

 

قداسة البابا فرنسيس

المقابلة العامة

الأربعاء، 27 سبتمبر / ايلول 2017‏

 

موقع الكرسي الرسولي.