تقترب أيّام يسوع من نهايتها، وتشتدّ عليه الحرب التي يشنّها الفريسيّون ليمسكوه بكلمة، فيسألوه عن مشروعيّة دفع الجزيّة إلى قيصر (متى 22: 15-22)، ويأتي من بعدهم الصدّوقيّون ليسألوه عن قيامة الأموات ومصير المرأة التي تزوّجها سبعة رجال ولم ينجبوا منها (متى 22: 23-33)، ثمّ يعود الفريسيّون مجدّدًا ليحرجوه فيسألونه عن أعظم وصيّة في الشّريعة (متى 22: 34-40).
لا يقاوم يسوع الشرّ بالشرّ بل بالوداعة والبساطة يردّ على من يريدون النيل من حياته، ويُرشدهم إلى طريق الصّدق والحقّ والحياة. فهو رجل الله مَن يحيا في واقع ظروفه الإنسانيّة ويدفع الضّريبة لقيصر مثل باقي النّاس (متى 22: 21)، ويعرف معنى الحبّ البشريّ وما يشير إليه الزواج على الأرض من علاقة فرح وعطاء في ملكوت السّماوات، حيث يُغلب الموت وتسود الحياة، فلا يعد النّاس يتزاوجون (متى 22: 29).
وقبل كلّ شيء، يسوع قارئ للكتاب المقدّس، ينهل منه كمَن يرتوي من نبع صافٍ، ويستمدّ منه النّور كي يوجّه حياته لخير النّاس ومجد الله أبيه. لا يحيا يسوع من نفسه بل من أبيه مصدر كلّ حياة وفرح وسلام، ووسط الشدّة وتصاعد مكائد الكراهيّة يجد يسوع سلامه وقوَّته في كلمة الله.
يحيط بيسوع رفض الرّؤساء الدِّينيِّين ويلوح في الأفق النهاية المؤلمة على خشبة الصَّليب، وفي هذه الأوقات الصَّعبة لا يرتعش يسوع بل يدخل إلى أعماقه ويتلامس مع سرِّ حياته ومصدر قوَّته، الله أبيه السَّاكن في قلبه. تزداد العواصف الجامحة في الخارج ويجد يسوع السَّكينة في كلمة الله التي تنير وجوده. تقترب حياته من نهايتها على أيديّ البشر الخطأة، فتنفتح أمامه أفاق واسعة للحياة، هي أفاق الحبّ. سيخلع عنه أعداؤه كلّ شيء، ولكنّهم لن يستطيعوا أن ينالوا من قلبه، فسيظلّ نابضًا بالحبّ والحياة حتى يلفظ الرّوح.
في كلّ زمان يصنع البشر آلهة على صورتهم كمثالهم، كلّها خبث ومكر وأنانيّة، تبث روح الفُرقة والشّقاق والعنف بين النّاس. ومن فيض قلوبهم اليابسة تنطق ألسنتهم بكلمات إقصاء وتعالي وكبرياء، يهلّلون للموت ويمدحون القتل، معتقدين أنّهم هكذا يمجّدون الله العليّ. وفي كلّ مرّة تقسو قلوبنا ولا تتبع روح الحياة، تعمى بصائرنا عن نور الله المحبّة، ونمتلئ بالغضب والبغض تجاه الآخرين.
الله يستطيع أن ينقذ الإنسان من عمى الكبرياء والغرور، ومن جنون الكراهيّة والتدمير. وحده الله يمكنه أن يخلق فينا قلب إنسان، من لحم ودمّ، قادر على التواصل والعطاء والمشاركة، على الغفران والمصالحة والرّجاء، وأن يحوّل عالمنا المصاب بداء الكذب والخداع والعنف إلى موضع حرّيّة وإخاء وبناء.
ما هي أعظم وصيّة في الشّريعة؟ يقول يسوع إنّها تتلخّص في أن نحبّ الله بكلّ القلب، وكلّ النفس، وكلّ العقل، وأن نحبّ القريب مثلما نحبّ أنفسنا (متى 22: 37-39). ويضيف أنّه "على هاتين الوصيّتين تقوم الشريعة كلّها وتعاليم الأنبياء" (متى 22: 40).
ولكن كيف يكون هذا؟ وكيف نعرف الطريق إلى الإله الحقّ؟ نحن لا يسعنا بقوَّتنا أن نحبّ، "فنحن ما أحببنا الله، بل هو الذي أحبّنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا. فإذا كان الله، أيّها الأحبّاء، أحبّنا هذا الحبّ، فعلينا أن يحبّ بعضنا بعضًا" (1يو4: 10-11). إنّه يسوع من يعلّمنا الحبّ، فهو مَن واجه ما في قلب الإنسان من قساوة وإنغلاق، وظلّ مؤمنًا بقدرة حبّ الله أبيه الأقوى من الكراهيّة والموت، وخرج من القبر منتصرًا على الخطيئة وقدرتها.
إنّه روح القائم من بين الأموات الذي ينعشنا اليوم لنسلك في طريق الحبّ ليملك الله أبو يسوع المسيح علينا، فهو نبع حياتنا ونورها ونعمتها، وهو من يجعلنا بشرًا نستقبل بعضنا بعضًا في تفرّدنا وتميّزنا، في اختلافاتنا وتنوعنا الفكريّ والدينيّ والاجتماعيّ. بنعمة الله وحدها نستطيع أن نحبّ الناس من حولنا وأن نتعلّم كيف نتعاون معهم لبناء عالم أخويّ يرفع عن الفقراء عزلتهم ومعاناتهم، وأن نسعى لتحقيق العدالة بين البشر وتعزيز الخير العامّ.
وسيظلّ المعيار الأساسيّ لقياس مصداقيّة حبّنا لله من كلّ قلوبنا هو سعيّنا لخير النّاس بدون تمييز ولا حدود، ورغبتنا في التصالح مع الجميع، وقدرتنا على الرّجاء بالرَّغم من المصاعب والتحدّيات والإحباطات.
وبفضل روح الربّ السَّاكن فينا، سنعلن مع يسوع عن عالم يسود فيه احترام كرامة الإنسان، ونكد ونجتهد ولا نيأس أمام الشرّ ولا نتخاذل أمام المشقات، بل نظلّ مع يسوع مؤمنين بأنّ الحبّ أقوى من البغض، وأن الخير سينتصر على العنف والموت. لنطلب نعمة أن نحبّ الله من كلّ قلوبنا حتى يعرف الإنسان طعم الحياة والفرح.