هل يُمكن أن يكون لدينا مُرشد أفضل من يوحنّا المعمدان لكي يُحضّرُنا لقدوم المخلّص؟ لكن، يبدو لنا في إنجيل متى بأنّ يوحنّا نفسهُ كان محتارًا. هل يمكن أن يكون الشكّ قد ساور يوحنّا حتّى أنّه أرسل تلاميذهُ إلى يسوع يسألهُ بلسانهم: «أأنتَ الآتي، أم آخر ننتظر؟ متى (11: 3).
كان يوحنّا قابعًا بين جدران سجنه الأربعة، فقد كان الملك هيرودُس قد اعتقلهُ بسبب صراحته. لقد كان ينتظر بفارغ الصبر أن يقوم يسوع الذي اعتمد عن يدهِ في مياه الأردنّ، بالبدء في آخر الأمر برسالته المشيحانيّة.
صحيح أنّه جعلهُ محتارًا في أمرهِ في اللحظة التي عمّدَهُ فيها، فقد كان يوحنّا قد أعلن سابقـًا بأنّه سوف يأتي وفي يده الفأس التي سيقطع بها كلّ شجرة لا تُثمر ثمرًا طيّبًا ويُلقيها في النار. وها إنّ الآتي يقول أنّه لم يأتي ليقطع ويحرق، لكن ليشفي ويغفُر.
وبدلًا من أن يعتمد هو عن يدهِ، شاهدهُ يوحنّا قادمًا نحوهُ ليقول له: «دعني الآن وما أُريد» (متى 3: 15)؛ لقد جئتُ لأعتمد عن يدِكَ، فتركهُ يوحنّا يفعل ما يشاء، وعندئذٍ تجلّى الله في هذه الحركة المتواضعة. لكن متّى سينتهي هذا «الآن»؟ متى سنرى مجد يهوه وبهاء الله، مثلما كان قد أعلن أشعيا؟ متى ستصبح الأراضي القاحلة مليئة بالفرح؟ (أش 35: 1-6). متى سيأتي، قريبهُ، ليقابل هيرودُس ويحرّرهُ من هذا السِّجن البائس؟.
يوحنّا في حيرة، كما نحن أيضًا وفي كثيرٍ من الأحيان. لأنّه من النادر أن يأتي المسيح بالطريقة التي قد نتصّورها لمجيء الربّ. يستمرّ إلهنا في كونه «إله المفاجآت». فهو في ولادته، جعل شعبه في حيرة إذ لم يعطِهِ كعلامة للخلاص سوى طفلًا مولودًا، مُقمّطًا مُضجعًا في مزودٍ للبهائم. ثمّ بعد 30 سنة من الحياة الخفيّة في الناصرة، كابنٍ ليوسف النجار، جاء إلى يوحنّا يطلب المعموديّة بدلًا من أن يأتي لكي يُعمّد بالنار.
متى سيظهر أخيرًا هذا المخلّص الذي ننتظره؟ نحن أيضًا، على مثال يوحنّا، لدينا الكثير من التساؤلات حول هويّة الربّ. كان يجب أن يأتي مثلما أعلن سابقـًا النبيّ ملاخي، آخر أنبياء العهد القديم: «مَن الذي يحتمل يوم مجيئه؟... إنّه مثل نار السبّاك وكمسحوقٍ منظفٍ للثياب» (ملا 3: 2).
يمكن للشكّ أن يكون طريقـًا للنموّ بشرط أن يتمّ السؤال بتواضع. لذا فإنّ جواب يسوع لصديقه يوحنّا القابع في السِّجن، وأيضًا لكلّ واحدٍ منّا اليوم في هذه الألفيّة الثالثة، لا يزال يُحيّرنا ويُنوّرنا.
في هذا العالم الذي يبحث عن السّلطة والذي يهيمن عليه المال، يقول لنا المُخلّص: ليس هناك أيّة علامة على مجيء الله سوى واقع أن يتوصّل الفقير لأن يتنفُّس ويشعر أنّ له مكانته في مجتمعنا.
يستعيد يسوع في جوابه ليوحنّا نبوءة النبيّ أشعيا (35: 5-6): «حينئذٍ تنفتح عيون العميان وأذان الصُم تنفتح... حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيّل ويهتف لسان الأبكم بفرح».
ألا يقول البابا فرنسيس، «أسقف روما»، الكلام ذاته من خلال ذهابه إلى لامبيدوسا لمساعدة الأفارقة الناجين من الغرق، وفي معانقته للطفل المُعاق، وفي زيارته للفقراء في الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو أو إلى السّجناء في روما أو في محاربته للفساد، حتى في داخل الفاتيكان؟ «إنّه الميلاد، في كلّ يوم نمسح فيه دمعة من عيون طفل».
«طوبى لمَن لا أكون له حجر عثرة» (متى 11: 6).
نعم يا يوحنّا، أعلم جيّدًا أنّ أسلوبي في العمل يُحيّرُكَ وأنّكَ افتكرتَ بمسيحٍ آخر مختلف. دعني أعمل ما أُريد! لا تكُن مصدومًا بإله يُعرّض نفسه للخطر مع المحرومين، والمنبوذين من المجتمع.
يسوع لا يستنكر «شكّ» وارتباك يوحنّا. بل بالعكس، فهو يقول لاحقـًا في إنجيل متى في شأن يوحنّا، بأنّه نبيّ «وبأنّه لم يظهر في أولاد النساء أعظم من يوحنّا» (متى 11: 11). وذلك يؤكد ما قُلناهُ في بداية هذه العظة، بأنّه لا يمكننا أن نجِد لأنفسنا مُرشدًا روحيًا يُحضّرنا لمجيء المسيح أفضل من يوحنّا المعمدان.
لأنّ يوحنّا رجُل متواضع: إنّه صوت الكلمة (يو 1: 23)، شاهدٌ للنّور (يو 1: 8) وصديق العريس (يو 1: 8). كلّ شيء فيه كان إصغاء لكلام الله ليكون صوتًا للكلمة؛ كلّ شيء فيه كان تأمّلًا بنور العالم ليكون له الشّاهد الأمين، كلّ شيء فيه كان محبّةً كاملة للعريس، لكي يكبر، في حين أن يوحنّا كان يختفي.
إذا استطعنا أن نُصغي إلى الكلمة على مثال يوحنّا، أن نتأمّل بالنّور مثله ونحبّ العريس حتّى تقديم حياتنا له، فإنّ مجيء الله سيتحقـَّق «وتنتهي الآلام والتأوهات» (أش 35: 10)؛ ونعرف أنّه هو الذي ينبغي أن يأتي، الله - مع - شعبه، عمّانوئيل.
الأب هانس بوتمان اليسوعي.