إذا كانت أوّل كلمة قالها المسيح على الصّليب "يا أبتِ إغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون" موجّهة للآب من أجل كلّ إنسان، والثانية: "اليوم ستكون معي في الفردوس" موجّهة لشخص محدّد. فالكلمة الثالثة موجّهة لشخصين: "فقال لأمِّه أيتها المرأة، هذا ابنُكِ. ثم قال لَلتِّلميذ: هذه أُمُكَ" (يو 19: 26).
يسوع المسيح بهذه الكلمة يتوجّه لشخصين: مريم والتِّلميذ الذي أحبه؛ يوحنّا. فيقول لمريم: هذا إبنُكِ، ويقول لَلتِّلميذ: هذه أُمُّكَ. لا نستطيع أن نُفَسِّر هذه الكلمات على المُستوى العاطفيّ فقط؛ فنقول أنّ المسيح قبل موته، ومن شدّة حبّه لأمُّه، يَجد من يعتني بها.
كثيرٌ من المُفسِّرين بالفعل رأوا في هذا المشهد شيئًا أعمق؛ رأوا مريم التي تمثـِّل الكنيسة ويوحنّا الذي يمثـِّل كلّ مسيحيّ. وبهذه الكلمة يُسلّم يسوع المؤمنين لمريم كأبناء ويُسلّم لكلِّ مسيحيّ مريم كأمّ. فيسوع لا يقول هذا كإبنك، أو هذه كأمُّكَ. لا، بل يُعلن واقعًا روحيًّا لم يكن معروفًا حتّى الآن. يقول لمريم: هذا إبنُك. وليوحنّا: هذه أُمُّكَ. وهكذا يكشف يسوع عن رِباط روحيّ كان مُحجوبًا.
المسيح يقول لمريم: يا إمرأة، وبهذا يسترجع مشهد حوّاء عندما تعرّف عليها آدم في البدء وأعطاها إسم: "حوّاء" لأنّها ستكون "أمّ" لجميع الأحيّاء. لكن هذه الأمّ، حوّاء، إستمعت لكرازة الشيطان وصدّقتها، وحملت ثمرة ذلك وأعطته لآدم، الذي لم يُناقش وأكل. حوّاء والتي جعلها الله مصدر الحياة، مصنع الحياة، إستغلّها إبليس وجعل منها قناة للموت.
وهنا يسوع المسيح، آدم الجديد، يفعل شيئًا أعمق ويفدي ما قد بدأ، يعطي إسماً لمريم، لحوّاء الجديدة؛ "أمّ". أمٌّ سمعت كلام ملاك الرّبّ وآمنت، فحملت ثمرة ذلك وأعطته لكلّ البشريّة. أمٌ تعلّمت أن تحفظ كلّ شيء في قلبها. أمٌّ تعلّمت أن ترى نقص خمر البشر، كما في عرس قانا؛ أي نقص الفرح، نقص الحياة، فتتشفع لهم عند الإبن. وبذلك أصبحت قناة للنِعَم.
المسيح يوحي لمريم من هي. هي أُمٌّ لكلِّ من يتبع المسيح، أُمٌّ لكلِّ من يُحبُّه المسيح، لكلِّ إنسان، لكلِّ الأحيّاء. والأحيّاء هم الذين يتبعون المسيح، هم الذين قاموا من موتهم، من الخطيئة، هم الذين بُشّروا بالخبر المُفرح وآمنوا به، هم الذين استمعوا لكلمة المسيح الأولى على الصّليب، فصدّقوا وقبِلوا هذه المغفرة. وهكذا يجدون أنفسهم أبناء لأمّ ٍ تلدهم للحياة، وتعلّمُهم أن يفعلوا مشيئة أبيهم. فمريم هي صورة للكنيسة التي تعتني بأبنائها فتلدهم للحياة وتنمّيهم في النّعمة.
وليوحنّا يُعلن يسوع أيضاً هويّته الحقيقيّة. فمن هو التِّلميذ الحقيقيّ؟ هو إبن. إبن للكنيسة، إبن لمريم. هذا هو المسيحيّ؛ "إبن". إبن وليس أجير، إبن وليس عبد.
بهذه الكلمة يسوع المسيح يؤسِّس خليقة جديدة، بالأحرى يحمل الخليقة إلى كمالها، الآن يوجد آدم الحقيقيّ وحوّاء الحقيقيّة، والنّسل الحقيقيّ. بهذه الكلمة تولّد الكنيسة، والتي هي "أمُ" وفي نفس الوقت أبناء، أبناء لآب واحد؛ أبو يسوع المسيح.
وهنا يصرخ المسيح ويعلن كلمته الرابعة والتي أثارت شكوك وعثرة الكثيرين، ولكن كما يقول المسيح نفسه: "طوبى لمن لا أكون له حجر عثرةَ" (لو 7: 23)... وإلى صباحِ يومٍ ثانٍ.
إذاعة الفاتيكان- 2010.