مَرْيَمُ العَذراءُ أوَّلُ الصَّاعِدين

القوت اليومي

مَرْيَمُ العَذراءُ أوَّلُ الصَّاعِدين

 

 

 

 

 

 

 أليَوم، تِلْكَ النَّفْسُ الطاهِرةُ النَّقِيَّةُ التي كَرَّسَها الرّوحُ الإلهي، بَعْدَ أنْ  طارَتْ مِنَ الفُلك، أيْ جَسَدِها، الذي اسْتَقْبَلَ اللهَ يَنْبوعَ الحَياة، وَجَدَتْ  "مَكاناً تَضَعُ عليهِ رِجْلَيْها" (تكوين 8/9) : لقدْ ذَهَبَتْ إلى العالَمِ المَعْقولِ وَاسْتَقرَّتْ على الأرضِ الطّاهِرةِ في المَلَكوتِ الأسْمَى. اليومَ تَسْتَقْبِلُ عَدْنُ آدَمَ الجَديد، الفِرْدَوْسَ الرُّوحِي، حَيْثُ مُحِيَ الحُكْم، وَغُرِسَتْ شَجَرَةُ الحَياةِ وَسُتِرَ عُرْيُنا، لِأنَّنا لَسْنا بَعْدُ عُراةً وَبِدونِ كِساء، مَحْرُومينَ مِنْ بَهْجَةِ صورَةِ الله، وَمُجَرَّدينَ مِنْ نِعْمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ العَميمَة.

 

فإنَّ ابْنَ اللهِ الوَحيدَ الذي هُوَ إلهٌ مُساوٍ لِلآبِ في الجَوْهَر، قدِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ طَبيعةً بَشَرِيَّةً مِنْ هذِهِ العَذراءِ وَمِنْ هذِهِ الأرْضِ النَّقِيَّة.

 

  

أليَوم، العَذراءُ البَريئةُ مِنَ الدَّنَس، التي لَمْ تُخامِرْها عاطِفَةٌ أرْضِيَّة، بَلْ تَغَذَّتْ بِالأفْكارِ السَّماوِيَة، لَمْ تَعُدْ إلى التُّراب، وَبِما أنَّها بالحَقيقةِ سَماءٌ حَيَّة، أقامَتْ في الأخْبِيَةِ السَّماوية، فهَلْ يُخْطِئُ إذّنْ مَنْ يَدْعوها "سماء"؟

 

إلّا إذا قُلنا، وَلَعَلَّهُ بِعَدلٍ وَصَواب، إنَّها تَفوقُ السَّماواتِ عَيْنَها بامْتِيازاتٍ لامَثيلَ لها، لأنَّ مَنْ بَنى السَّماواتِ واحْتَواها، والذي صَنَعَ الكَوْنَ وَما وَراءَ الكَوْن، ألمَنْظورَ وَغَيْرَ المَنْظور، ألذي لا مَقرَّ لَهُ، لِأنَّهُ هُوَ عَيْنُهُ مَقرُّ كُلِّ الكائِنات - لِأنَّ المَقرَّ في تَحْدِيدهِ يَحْوي ما فيه - قدْ جَعَلَ نَفْسَهُ في العَذراءِ طِفْلاً صَغيرا، وَجَعَلَ مِنْها مَقرَّ أُلوهِيَّتِهِ الفَسيحَ الذي يَمْلأ كُلَّ شَيْء، وَحيداً ولا حَدَّ لَهُ.

 

تَجَمَّعَ فيها كُلُّهُ بِدونِ أنْ يَتَصاغَر، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ بِكامِلِهِ خارِجاً، لِأنَّهُ هُوَ مَقرُّ ذاتِهِ غَيْرُ المَحْدود.

 

 

 

(عظة الإنتقال)

 

القِدِّيسِ  يوحَنّا الدِمَشْقي (+746)