الجمالُ القديم

القوت اليومي

الجمالُ القديم

                      

لقدْ احببتُكَ مُتأخراً، أيُّها ا��جمال القديمُ، الحديث، أجل مُتأخّراً أحببتُك.

أنتَ كُنتَ في داخلي  وأنا خارجاً عن نفسي.

وفي الخارجِ بحثتُ عنكَ طويلاً، ووثبتُ في قباحتي نحو الجمالاتِ التي كوّنتَها.

أنتَ كُنتَ معي وأنا لم أكُن معك. واستوقفتني بعيداً تلك الأشياء التي لولا وجودها فيكَ لما كان لها وجود.

دعوتني وصرختَ بي، فانتصرَ صوتُكَ على صمَمي، وسطعَ نورُكَ فبدّدَ عماي، وفاح أريجُكَ فتنشقتُهُ، وها إنّني إليكَ اتوق، وذُقتُكَ فجعتُ وعطشتُ إليكَ، ومسستني فاتّقدتُ شوقاً إلى سلامِك.

   حين أتّحدُ بكَ، بكُلّيتي، أفقِدُ كُلّ شعورٍ بالألم والتعب، وتمتلِىءُ حياتي منكَ وتُصبحُ حياةً صحيحةً.

أنتَ تُخَفِّفُ عن كاهل من تملأُهُ وأنا الآن لستُ مُمتَلِئاً.  ولهذا فإنّي أُثقِّلُ على ذاتي.  إنّ أفراحي التي أبكيها تُقاومُ أحزاني التي بها أغتبِط. وَلِمن النصر؟ لا أعلم...

   أواه! ترأّف بي أيّها الرّب، أنا الفقير. أنظُر إلى قُروحي فها هي مكشوفةٌ لديك.

أنتَ الطبيبُ وأنا المريض، أنتَ الرحيمُ وأنا الشقيّ؛ أليستْ حياةُ الإنسانِ على الأرض امتحاناً؟

ومن يبغي المشاكل و الصعوبات؟ تأمُرُ الإنسان بأن يتحمّلَها لا بأن يُحبَّها. لا أحد يُحبُّ ما يتحمّل، وإن أحبَّ أن يتحمّل. وإن اغتبطَ الإنسان بِحمله، فيَظلُّ يُفضِّلُ ألاّ يتحمّل شيئاً.

في ضيقي أبغي سعادتي، وفي سعادتي أخافُ من الضيق. وهل من حَلٍّ وسطٍ بين هاتين الحالتين، حيثُ لا تكونُ حياةُ الإنسان تجربة؟

   رجائي كُلُّهُ في رحمتِكَ الواسِعة. هب ما تأمُرُ به ومُر بما تريد... قَلَّ ما يُحبّكَ من يُشرِكُ في حُبِّكَ آخر، لأنهُ لا يُحبكَ من أجلكَ.

أيُّها الحُبُّ الذي يَشْتعلُ دوماً ولا ينطفىءُ أبداً. يا إلهي، أيُّها المحبَة، أشعلني.

 

(اعترافات، 10)

القديس أغوسطينوس (+430)