ألمارونيّة، ما هي؟

القوت اليومي

ألمارونيّة، ما هي؟

 

 

أولئِكَ الآتون مِن البعيد، المُستقِرُّون في الأعالي، الهادِفون إلى الأبعَد، مَن هُم؟ ما شأنُهم في تاريخِ الشرق؟ في تاريخ لبنان؟ أيـَّة َ كلمةٍ رسالةٍ أُعْطوا ليَحمِلوا؟ أيَّ دورٍ أ ُنيط بِهم تَحقيقه؟ ما المَبدأ الهدفُ الذي يُحرِّكُهُم؟

      

 

مُحِبُّون مُضَحُّون مَحبَّةَ سامِريِّ الإنجيلِ وتَضحيَتَهُ. ودُعاءُ مُسالِمون وَداعة المَساكينِ بالرّوح، أشدُّ غيرَةً على مَجدِ اللهِ وكرامَتِهِ منهُم على مَجدِهِم وكرامَتِهم. أجمَلُ بيتٍ في قُراهُم ومُدُنِهِم بيتٌ لله، وأعلى تِمثالٍ على ذُراهُم ومُنعطفاتِهِم تِمثالٌ للعذراء...

     

 

  المارونيَّةُ ، هذهِ الروحيَّةُ الباقيَةُ مِن نَهجِ الموارِنة القُدامى - هي في الواقع

تُراثٌ روحيٌّ يَشُدُّ المَوارِنة إلى الإنجيل، إلى السَّيِّدِ المَسيح الإلهِ المُتجسِّد، بالقدّيس مارون مِثالِهم في عيشِ الإنجيلِ ببساطةٍ وإخلاص، بتفانٍ وبطولة؛ وهيَ أيضًا تُراث ٌ حَضاريٌّ يربُطهُم بمَسيحيِّي بطريركيَّةِ أنطاكية ومَدرَستِها الفكريَّةِ الكُبرى، ونَهجِها الثـُـنائيِّ في فهمِ شخصيَّةِ المسيح الإلهِ الكامِلِ والإنسانِ الكامل.

 

فبِفضلِ هذه العقيدَةِ وهذا المفهوم الثنائيِّ لِطَبعَي السيّد المسيح، ارتبطتِ الكنيسَةُ المارونيّة، منذ القرنِ الخامِسِ (451 في مجمع الخلقيدوني) بكنيسة روما، فكان هذا اللقاءُ مَبدًأ لِعلاقاتٍ دهريَّةٍ طيّبة، سوفَ يُشكّلُ - مع الزمن - صِفةً مِن صِفاتِ المارونيّة، تَقيها خطرَ الانغِلاقِ على الذات، وتسمَحُ لها بالانفتاحِ على الشموليّة العالميّة.

      

 

فالمارونيّة إذن، ليست مفهومًا مدنيًّا صِرفًا ولا مفهومًا دينيًّا صِرفًا، بلْ هيَ إحدى أنجَحِ تَجسُّداتِ الفكرِ العملي والتركيبِ المسيحي في هذهِ المِنطقة. لقد استطاعت، بما لها منْ دفعٍ روحيّ، ولأبنائِها مِن إخلاصِ العيشِ في صميمها، أن تُوحِّدَ معًا، في ذاتِها، التقوى الشخصيَّة والأمانة الكُبرى للمسيح وللكنيسَةِ الجامعة بِما أنّها ديانة، والثقةَ المُطلقة بالإنسانِ المُتجدِّدِ والأمانة الكُبرى لِخطـِّها الحضاريِّ بما أنَّها أ ُمَّة إستطاعت أن تكون، في الوقتِ نفسِهِ، ديانةً ودولة، مِن غيرِ أنْ تُدوِّلَ الدين وتُدَيِّن الدولة.

      

 

وإذا حاولنا الإيضاحَ أكثر، قُلنا إنَّ المارونيَّة هيَ، مِن حيث النشأةِ، مذهبٌ فكريٌّ إنطاكيّ، دينيٌّ مدنيٌّ بالوقت ذاته، ذو صفةٍ مُميّزةٍ مُتصلةٍ مُباشرةً بحضارةٍ قديمةٍ هي الحضارةُ الآراميّة السُّريانيَّة. وقدِ ارتبطتْ بواسِطةِ روما بالحضارة العالميّة، وطـُبِعَتْ بِطابَعٍ مسيحيٍّ خاصٍّ هوَ طابَعُ روحانيَّةِ القدّيس مارون، قبلَ أن تكون طائِفةً حسبَ المَفهومِ المُتداولِ للكلمَة، محصورة العدد، تَدورُ في حلقةِ الصراعِ الطائِفي في سبيلِ البقاء.

 

فالتمسُّكِ بالخط ِّ الحَضاريِّ الأصيلِ والارتباطِ بالمسيحيَّةِ العالميَّة، معَ الحِفاظِ على روحانيَّةِ القدِّيس مارون، كلّها متماسِكة، كفلتْ هذا النوع من الوجودِ المسيحيِّ والتاريخيّ للموارِنة.

 

 

(المارونية حتى سنة 1943، محاضرة سنة 1974)