إنجيل يوحنّا (14/ 15- 20)
أحد العنصرة
قالَ الربُّ يَسوعُ لِتَلاميذِهِ: «إِنْ تُحِبُّونِي تحْفَظُوا وَصَايَاي.
وأَنَا أَسْأَلُ الآبَ فَيُعْطِيكُم بَرَقلِيطًا آخَرَ مُؤَيِّدًا يَكُونُ مَعَكُم إِلى الأَبَد.
هُوَ رُوحُ ٱلحَقِّ الَّذي لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لا يَرَاه، ولا يَعْرِفُهُ. أَمَّا أَنْتُم فَتَعْرِفُونَهُ، لأَنَّهُ مُقيمٌ
عِنْدَكُم، وهُوَ فِيكُم.
لَنْ أَتْرُكَكُم يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُم.
عَمَّا قَلِيلٍ لَنْ يَرانِيَ العَالَم، أَمَّا أَنْتُم فَتَرَونَنِي، لأَنِّي أَنَا حَيٌّ وأَنْتُم سَتـَحْيَون.
في ذلِكَ اليَومِ تَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا في أَبِي، وأَنْتُم فِيَّ، وأَنَا فيكُم.
تأمل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتهمّل طوال الأسبوع)
يصف لنا سفر أعمال الرّسل حدث العنصرة الذي يشكّل جوهر الحياة المسيحيّة ومُنطلقـًا أساسيًّا لولادة الكنيسة بحلول الرّوح القدس على التلاميذ في اليوم الخمسين بعد قيامة يسوع من الموت. يتجلّى هذا الحدث بهبوط ألسنة النّار على التلاميذ وبخطاب بطرس الذي يربط هذا الحدث بقيامة يسوع.
في هذا النصّ يُشدِّد الإنجيليّ يوحنّا على تحقيق الوعد بإرسال الرّوح القدس الذي سيخلف يسوع ويؤمِّن حضوره مع التلاميذ ويكون فيهم ويقودهم إلى الحقّ كلّه، فيتمّم كلّ ما بدأ به يسوع بواسطة الرّسل الذين سيؤلفون نواة الكنيسة الأولى التي تتحوّل بفعل حلول هذا الرّوح إلى كنيسة شاهدة للمسيح ولبشارته الخلاصيّة حيث يُشرك الله القدّوس جميع الشّعوب بحياته الخلاصيّة ويدعوهم إلى فهم لغته الوحيدة لغة المحبّة والغفران والسّلام.
"وأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم"
يُظهر لنا الإنجيليّ يوحنّا إنَّ حدث موت وقيامة وصعود يسوع إلى السّماء وحلول روحه القدّوس على التلاميذ في العلّيّة يشكّل حدثًا تاريخيًّا ولاهوتيًّا واحدًا. والقدّيس لوقا أيضًا لا يفصل بين كلِّ هذه الأحداث، بينما الإحتفال الكنسيّ والليتورجيّ قد فصل بينهم منذ تدوين أعمال الرّسل والأناجيل. فمن البيّن أنّ رمز الأربعين يرمز إلى فترة تحضير يتمّ فيها حدث خلاصيّ كبير كوجود شعب إسرائيل في البريّة مدّة أربعين سنة قبل دخولهم أرض الميعاد، وصوم موسى قبل تسلّمه لوحَيّ الوصايا وصوم يسوع في البرِّيَّة قبل بدء رسالته العلنيّة.
أمّا يوم الخمسين فيرمز إلى ملْء الزمن ويُدعى بحسب التوراة عيد العنصرة أي الإجتماع، حيث أعطى الله فيه التوراة لموسى على جبل سيناء. لذلك طبّق لوقا هذا التقليد على الجماعة المسيحيّة رمزًا ليوم الخمسين لخروج شعب الله من مصر على يد موسى وإبرام العهد بين الله وشعبه. أمّا في اليوم الخمسين بعد قيامته أعطى يسوع رسله ولكلِّ البشريّة الرُّوح القدس شريعة العهد الجديد.
قبل الشُّروع ببناء برج بابل كان جميع البشر يتكلّمون لغة واحدة، أمّا فيما بعد فقد نوّع الله لغاتهم لمعاقبة كبريائهم التي يرمز إليها ذلك المشروع الذي غلّفته روح الأنانيّة والكبرياء: "وقال الرَّبّ: هوذا هم شعبٌ واحد ولجميعهم لغةٌ واحدة وهذا ما أخذوا يفعلونه. والآن لا يكفّون عمّا همّوا به حتى يصنعوه فلننزل ونبلبل هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم على بعض" (تك11 /6-7).
لكنّ العنصرة لم تُعِد إلى البشر تلك اللّغة الوحيدة التي فقدوها في بابل ولم تُعِد للرّسل تلك اللّغة الوحيدة التي قد يفهمها الذين يسمعونهم. بل وهبت لهم على عكس ذلك أن يتحدّثوا إلى السَّامعين في لغتهم الخاصَّة المقرونة بلغة المحبّة. لذلك على الكنيسة يعود واجب تبنّي جميع لغات البشر وجميع الثقافات التي تعبّر عنها اللّغات وتنقلها.
في هذا ليس المقصود أن تجعل الكنيسة جميع البشر يفهمونها، بل أن تتحدّث إليهم في لغاتهم وهذا ما ردّده بولس الرّسول: "فصرت لليهود كاليهوديّ لأربح اليهود... وصرت للضّعفاء ضعيفـًا لأربح الضّعفاء، وصرت للنّاس كلّهم كلّ شيء لأخلّص بعضهم مهما كان الأمر" (1قور 9 /19-22).
فأن دعوة الكنيسة الشموليّة تمنعها من أن تتطابق مع أيّة ثقافة خاصَّة. إنّ رسالة الكنيسة الشّاملة تُلزمها بأن تُعيد بلا انقطاع ترجمة رسالتها لتجعلها في متناول جميع البشر بحسب لغتهم وثقافتهم وطرق تفكيرهم. إنّها لمهمّة شاقة ولكن الكنيسة لم تنل الرّوح القدس إلّاّ لكي تقوم بكلّ هذا بين جميع الشّعوب وعبر جميع الأزمنة.
"إن تحبّوني تحفظوا وصاياي"
يحثّ يسوع تلاميذه على المحبّة التي تشكّل جوهر الحياة الدينيّة والأدبيّة. في عيش الوصيّة هذه أراد يسوع أن يشقّ طريقـًا جديدًا لتلاميذه قوامه حفظ هذه الوصيّة حيث أعطاهم نظامًا جديدًا وأوكل إليهم عملاً أساسه الحبّ.
إنّ حفظ الوصيّة هي الميزة الخاصَّة في كتابات القدِّيس يوحنّا لأنَّ الوصيّة تتطلّب الأمانة والإلتزام والتضحية وترتبط بالحبِّ الأخويّ وبعيش الحياة اليوميّة. إنّ حفظ الوصيّة من دون عمل المحبّة تتحوّل مع يسوع من علاقة شخصيَّة وجدانيّة إلى علاقة قانونيّة: "لأنَّ محبَّة الله أن نحفظ وصاياه وليست وصاياه ثقيلة الحمل" (1يو5 /3).
هذا ما عاشه الكتبة والفريِّسيِّون الذين حفظوا الشَّريعة بكلِّ حزافيرها وأهملوا وصيَّة المحبَّة. إنّ حبّ يسوع لا يصبح واقعًا ملموسًا إلاّ عندما نحفظ وصاياه لننال بها عطيَّة الرُّوح القدس. لذلك فالوصيَّة الجديدة تتعلّق بالحقائق المميّزة للأزمنة الأخيرة. إنّها علاقة الميثاق الجديد والنهائيّ الذي ختمه يسوع بدمه: "أعطيكم وصيَّةً جديدة أحبُّوا بعضكم بعضًا، كما أحببتكم أحبُّوا أنتم بعضكم بعضًا" (يو 13 /34)، هذه الوصيَّة هي خلاصة الشَّريعة والأنبياء.
"وأنا أسأل الآب فيعطيكم برقليطـًا آخر"
وعد يسوع تلاميذه بأنّه يسأل الآب فيعطيهم الرّوح القدس البرقليط المؤيد، روح الحقّ، ليقودهم إلى الحقّ كلّه. انّ هذا الرُّوح هو هبة الآب والابن المشتركة، إنّه المؤيّد والمدافع والمحامي إلى جانب المتّهمين والمعزّي والشّفيع، إنّه علامة حلول الأزمنة الجديدة ويقود كلّ شيء نحو كماله. هذا الرّوح لا يمكن للعالم أن يتلقّاه. إنّ هذا العالم وبحسب الإنجيليّ يوحنّا يُقسم إلى قسمين: أبناء النّور الذي قبلوا كلمة الله وآمنوا به وأبناء الظلام الذين رفضوا هذا النّور.
هذا العالم يعيش في حلقة مفرغة ولا يؤمن إلاّ بنفسه ويفتقر إلى حياة باطنيّة وليس له أعين إلاّ لما يراه ويلمسه فهو "لا يراه ولا يعرفه"، ولا يمكنه أن يدخل في النظام الجديد حيث دُعوا تلاميذ يسوع: "أمّا أنتم فتعلمون أنّه يُقيم عندكم ويكون فيكم".
فالعالم مُنغلق على ما يُلمس وما يُرى وينتظر دائمًا تجلّي الله فارضًا نفسه بالآيات والأعاجيب. لذلك لا يعرف هذا العالم شيئاً عن هذا الحبّ. أن الحبّ هو خروج من الذات بينما العالم هو انغلاق على الذات. هذا ما ردّده الإنجيليّ يوحنّا في رسالته قائلاً: "يا بُنيّ لا تحبّوا العالم وما في العالم. من أحبّ العالم لم تكن محبّة الله فيه" (1يو2 /15).
عبادة الرّوح وعمله في حياتنا اليوم:
إنّ عمل الرّوح القدس في حياتنا هو كالرّيح فلا يعرف أحدٌ من أين يأتي ولا إلى أين يذهب لكن أثاره ظاهرة في تاريخنا: إنّه يقودنا إلى الحقِّ كلّه. هو يعمل فينا دون أن ندركه ويدفعنا كلّ يوم في مسيرة وجودنا. يقودنا حين تتعثر إرادتنا وتنعدم حريّتنا. يقودنا لنصنع الخير مع كلِّ إنسان. يقودنا في صراعنا بين الرُّوح والمادّة لذلك يقول بولس الرَّسول: "لأنّ الخير الذي أريده لا أفعله، والشرَّ الذي لا أريده إيّاه أفعل" (روم7 /19). هذا الرّوح يعضد ضعفنا ويحضّنا على عيش أسرار المُصالحة والإفخارستيّا والغفران. يصلّي فينا عندما تتلاشى عندنا كلّ رغبة للصّلاة: "ويصلّي فينا بأنّات لا توصف" كما يقول بولس الرّسول.
يلهمنا في زمن المحنة والتجربة لنتصدّى لكلِّ هجمات الشِّرير، لنستمرَّ في المواجهة وندافع عن قيمنا ونواجه أولئك الذين يحاولون التحكّم فينا لكي لا نكون ضحيَّة الخوف واليأس والإحباط.
يحضّنا الرّوح على الشَّهادة في الوضع الذي نكون فيه مهما كبُرت التحديّات: "إنّ الله لم يعطِنا روح الخوف، بل روح القوّة والمحبّة والفطنة" (2طيم 1 /7).
فالمسيحيّة ليست طريقـًا تقود إلى الإستسلام والإنسحاب من العالم، بل هي طريق تمرّ في وسط الحياة. هذا ما تعيشه وتعلنه الكنيسة بواسطة الكلمة والأسرار والشّهادة والخدمة.
فالرّوح يعمل فينا ويظهر لنا كيف يكون الله فاعلاً في شخصيّتنا وحياتنا، ويذكّرنا كيف نعبّر عن كلّ ما فينا بطريقة متزنة في رتابة حياتنا اليوميّة. لذلك، فمن قاده الرّوح القدس إستطاع العيش حتى مع النّاس الأشرار. إنّ جميع الذين تبعوا الله اختبروا همسات روحه القدّوس تفعل في داخلهم.
لذلك نحن بحاجة دائمة إلى قوّة الرّوح القدس لكي يتجدّد كياننا الدّاخليّ تجدَّدًا جذريًّا وتتحوّل شخصيَّـتنا كما تحوّلت حياة الرّسل في العنصرة. هذا الرّوح يغمرنا في الشدّة ويملأنا من حضوره ويهبنا الشّجاعة لنواجه كلّ مخاوفنا.
إنّ الرُّوح القدس يدفعنا إلى أن نتخلّص من القلق والذنب والكبرياء هو يشفينا ويُلهمنا ويعزّينا ويُرشدنا ويساعدنا على أن نواجه كلَّ ما فينا من خِصال سيِّئة دون أن نشعر بالحُكم على أنفسنا وهذا ما يدفع نموَّنا إلى الأمام. هذا الرُّوح يقودنا إلى الإتزان والإنفتاح في الحياة اليوميَّة على الطرق الخفيَّة التي يتدّخل الله من خلالها في حياتنا.
إنّ الله وبواسطة روحه القدّوس ينحت شخصيَّـتنا بصبر ولطف حتى يتمكّن من أن يحوّلنا بكلّيتنا من خلال التوبة التحويل الباطنيّ التام أي تغيير العقل والقلب معًا تغييرًا جذريًّا. إنّ هذا التحوّل الدّاخليّ يبقى رهنًا بمدى تجاوبنا مع عمل الرُّوح القدس في كياننا.
إنّ ما حدث في بابل يتشابه مع ما يحدث في وطننا اليوم إذ باتت تسود لغة البلبة والتشرذم مكان لغة الحبّ والحوار والتواضع والغفران حيث أضحى حكّامنا لا يفهمون لغة بعضهم البعض: "وكانت الأرض كلها لغةً واحدة وكلامًا واحدًا" (تك11 /1). فكما أراد البابليون أن يبنوا "مدينةً وبرجًا رأسه في السَّماء" هكذا بدا مصير حكّامنا في وطننا اليوم حيث جلس كلّ منهم في برجه ولم يعد يستطيع أن يتنازل عمّا عن موقعه وموقفه أي عن برج كبريائه وأنانيّـته.
في هذا كتب توماس مِرتن يقول: "لماذا علينا أن نمضي حياتنا ونحن نعيش شيئًا لم نرده يومًا؟ لماذا نضيّع وقتنا لنقوم بأشياء لو تمهّلنا وفكّرنا فيها لوجدناها نقيض ما خُلقنا لأجله؟ لا نستطيع أن نكون أنفسنا إلاّ عندما نعرف أنفسنا". فما حدث في بابل يحدث في وطننا اليوم: كثرت اللّغات وسيطرت البلبلة في أوساط زعمائنا السياسيِّين حيث لم يعودوا يستطيعون فهم بعضهم بعضًا.
لقد غابت لغة المحبّة والحوار وحلّت لغة الكراهية والغضب والحروب والتخوين والكبرياء. ففي كلِّ هذا نحن مدعوُّون إلى أن نؤمن بأنّ ما حدث في العنصرة وحوّل التلاميذ من كلّ خوف هو قادر أن يتدخّل في كلِّ ما نعيشه في وطننا اليوم ويحوّل عقولنا وقلوبنا. وكما كانت الأماكن والأشخاص مليئة بالرّوح القدس كما أكّد الرّسل الذين كانوا شهودًا على تدّخل الله في عالم البشر فهو قادر على أن يحوّل أزمة وطننا إلى واحات حبّ وغفران وسلام.
نحن مدعوُّون إلى أن نؤمن بأنّ الله يتدّخل دومًا في تاريخنا بواسطة روحه القدّوس ويوحّد لغة حكّامنا وشعبنا فيتكلّمون لغة المحبّة والغفران والسّلام القادر على أن يفتح أمامنا كلّ الأبواب الموصدة والقادر على أن يلبسنا القوّة من علُ.
أسئلة للتأمل والتفكير:
1- هل ندرك أنّ من يترك الرّوح القدس يقوده يستطيع أن يعيش بسلام وحبّ مع جميع الناس وخاصّة الأشرار منهم ويتواصل معهم ويتكلّم لغتهم؟ ويستطيع أن يجعل من كلّ شيء وخاصّة من خطاياه سبيلاً للتعرّف على الله؟
2- كيف نعيش حفظ الوصيّة اليوم؟ هل ندرك أنّ حفظ هذه الوصيّة دون الرّوح القدس تصبح شريعة ثقيلة لا يُطاق حملها؟ أين موقع تعبدّنا للرّوح القدس في حياتنا؟ هل نتكلّم لغة الحبّ التي باستطاعة جميع الناس أن يفهموها؟
3- ما الذي يمنع الرّوح القدس من أن يعمل في حياتنا؟ هل ندرك أنّ الرّوح القدس يعمل فينا دومًا لكي ننسى عمق جراح خطايانا؟ هل نُدرك أنّه عندما تنعدم كلّ الحلول البشريّة يتجلّى حلول الرّوح القدس أمامنا؟
صلاة:
أيّها الرّوح القدّس، يا من أضرمت قلوب الرّسل في العليّة بألسنة من نار حبّك. جدّد وجه وطننا المضطّرب وبدّد كلّ ظلمة من كنف نفوسنا. أخلق فينا قلبًا جديدًا وانزع من صدورنا قلوبنا المتصلّبة ومن ضمائرنا أشواق الغضب والمعصية. ألهم عقولنا لكي نسبر سِرّ صمتك الذي يعمل في كياننا ويصلّي فينا بأنّات لا توصف. إنّك تنمو فينا دون أن ندرك ذلك وتسيّرنا عندما تتعطّل إرادتنا وتنعدم حريتنا. إنّك تعضد ضعفنا وتبكّتنا على كلّ خطيئة، تخلقنا وتذكّرنا بكلّ ما أوصانا به الإبن الوحيد. فيا روح الحقِّ قُد عالمنا إلى الحقّ كلّه، حرّر حكّامنا وشعبنا من روح البلبلة والتشتّت لكي لا نعود نتكلّم سوى لغة حبّك وغفرانك. لك المجد إلى الأبد. آمين.
الأب نبيل حبشي ر.م.م.