التجلّي حدثٌ وحالة

أضواء

التجلّي حدثٌ وحالة

التجلّي حدثٌ وحالة: حدَث يصفهُ لنا مرقس(2:9-8) وحالة يدعونا الى عيشها رسولا الكنيسة الكبيران: بطرس(1 بطرس12:4-16 ) وبولس (2 كورنتس 7:3-18 ). وإذا كان الاحتفال بالافخارستيا يجسِّد حدث تجسُّد الربّ وتجليّه فالعيش المسيحي طوال الأسبوع ينبغي ان يعكس حالة تجلّي الربّ الدائمة في حياة الكنيسة اليوميّة.

يأتي حدث التجليّ، في إنجيل مرقس، بعد اعتراف بطرس بيسوع في قيصرية فيليبس(27:8-30) وبعد إعلان يسوع لأول مرة عن آلامه وموته(31:6-33) ودعوته الجميع وتلاميذه لأتّباعه على درب الالم بحمل الصليب والزهد بالدنيا(34:8-38) في هذا الإطار تتَّضح لنا أهميّة الحدّث لمحور في حياة يسوع وبشارته وعلاقته مع تلاميذه. فبعدما انتقى يسوع تلاميذه، ومنهم الاثني عشر، وسار معهم مبشراً في قرى الجليل ومعلناً ملكوت الله باقواله ومعجزاته، كان لا بدَّ من أن تتفتح أعين التلاميذ على شخصيَّة يسوع وعلى رسالته الاساسيّة.

فالتجلّي هو هذا التحوُّل، لا بل هذا الكشف عن شخصيَّة يسوع الحقيقية. فالانسان فيه يتمتَّع بملء الانسانيّة المتألِّهة. انه ابن الله المتأنس الذي اتى لا ليلقِّننا دروساً لاهوتية عن الآب، بل ليكشف لنا عن وجه الآب ويرينا الله بالجسد.

 فالتجلّي هو اذاً تكملة لاعتراف بطرس بيسوع واظهار لهويّته الحقيقيّة ودعوة بالتالي للتلاميذ الثلاثة: بطرس ويعقوب ويوحنا، ومن خلالهم لجميع المؤمنين به، ليغوصوا في سرِّ هذا الشخص الذي ارتفع الى ملء الكمال الانساني واصبح هيكلاً بشرياً لحلولِ الله وحضوره بين الناس، جامعاً في كمال شخصيًّته الشفَّافة، اللهَ والانسان في وحدة لا تنفصم.انّ التجلي هو في الحقيقة، أبرز طريقة للكشف عن سرِّ التجسّد الالهيّ وبالتالي، عن غنى الطبيعة البشرية التي تتلاءم ولا تتنافى مع التجلّي الألوهة. وهذه الحقيقة تشكِّل استباقاً للقيامة وللمجد المعدّ للإنسان المؤمن بعد آلام هذا الدهر.هذا ما يؤكده الرسول بولس إذ يعلن عن زوال القناع الذي يحجب مجدَ الله عن عيوننا،"فنحن جميعاً، نعكس صورة مجد الربِّ بوجوه مكشوفة".

إن المؤمن، من خلال اتحاده بالمسيح، يصبح اقرب من موسى إلى الله لأنَّ المسيح ازال القناع عن وجهه لكيما يشركنا بمجد الله ويعكس نوره وصورته على وجوهنا. وما حضور موسى وإيليا في هذا الوقت إلاَّ دلالة على انَّ كل ما ورد في الشريعة، الممثَّلة بموسى، والانبياء الممثَّلين بإيليّا، ليس سوى للمسيح وانَّ العهد القديم باسره، ينبغي ان يُقرأ على ضوء المسيح، ليُفهَمَ كما ينبغي وليؤدي دوره الايمانيّ التعليميّ، وإلاّ اصبح عائقاً وقناعاً يحجب حقيقة المسيح. فالصوت الصارخ من السحابة التي تظلِّلهم، صوت الآب الذي ترافقت ظهوراته في العهد القديم خاصَّة لموسى، مع سحُب الغمام التي كانت تكلأ الجبل، هذا الصوت يؤكد للتلاميذ أنَّ  يسوع هو ابن الله وله وحده ينبغي ان يسمعوا،" هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا فمع ظهور الابن تجلَّت مشيئة الله بملئها، وكلُّ ما ورد في العهد القديم يتَّخذ قيمته الخلاصيّة فقط بعد سماع المسيح، اي الايمان به واتباعه على طريق الألم والموت والقيامة.

إنّ موقف بطرس ويعقوب ويوحنّا تجاه هذه رؤيا الجميلة موقف رهبة وإنسجام. فالإنسان، اذا ما تجاوب مع الرغبة الكيانيّة المتأصلة فيه، لا يعود يهتمُّ لشيء في العالم مثل اهتمامه برؤية وجه الله. وإذا ما حظي بشيء من هذه الرؤيا تمنّى ان تدوم ابداً. لقد تمنى الرسل ان يبقوا على الجبل."ما أجمل ان نكون هنا"، قال بطرس، عارضاً أن ينصب ثلاثة مظالّ، لتطول الإقامة. لذا يذكرنا القدّيس بطرس بأن واقع الأرض هومشاركة بآلام المسيح، فلا يجوز لنا أن نستغرب ما يحصل لنا من عذاب وآلام، بل علينا أن نفرح اذا ما تألمنا لأننا مسيحيَّون.

 فالألم بالنسبة للمسيحي، هو مجال فرح ورجاء، إذا ما عرفنا أن نتقبّله بروح التطويبات، ناظرين إلى المجد الآتي" بل افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه حتَّى اذا ما تجلّى مجده، كنتم في فرح وابتهاج"(1 بطرس13:4). أمَّا التجلّي فيبقى حالة نتوق اليها ونترجّاها ولا نعيش منها على الارض هنا إلاَّ هنيهات.

المشاركة في قدّاس الأحد والصلوات الفرديَّة او الجماعية وبخاصة الصلوات اليومية في العائلة هي أيضاً لحظات تجلّي الله في حياتنا. ولكن، ينبغي أن تنعكس عل حياتنا كلِّها فتُضفي عليها وهج الحضور الإلهيّ الذي ننقله بدورنا، الى كلِّ من حولنا. كما انَّها تصلنا مباشرة، بحياة الابد .حيث تدوم الرؤيا ويصبح التجلّي حالةً دائمة

فهل يعي المؤمنون حقاً انَّ" جبل التجلّي" اي الاوقات المكرَّسة للربّ يومياً واسبوعياً هي ضرورة ماسة لحياتنا؟ هل نوجِّه انتباهنا لسماع صوت ابن الله، أم نتجاهله بإصغائنا لأصوات أخرى كثيرة تُلهينا عنه وتُبعدنا عن الله وذاتنا الحقيقيّة؟ هل نتقبَّل آلام هذا الدهر كمسيحييِّن مقتدين بربِّنا يسوع المسيح فنعبر الى القيامة من خلال الألم والصليب والموت؟

 (حياتنا الليتورجية)